مقدمة :
في مقال منشور على موقع الحوار المتمدن بعنوان " محمد والصعاليك "، بقلم كاتب يدعى " الناصر لعماري "، ناقش الكاتب العلاقة بين النبي محمد (ص) الصعاليك في الجزيرة العربية أثناء الدعوة الإسلامية والصراع بين النبي (ص) وقريش وغيرها من القبائل الوثنية واليهودية، معتبراً أن علاقة النبي محمد (ص) بالصعاليك والتيتوجت باعتناق معظمهم للإسلام تمثل إدانة له وللإسلام معاً .
بصورة عامة يمتلئ موقع الحوار المتمدن بمثل هذه النوعية من الكتاب الذين يتخيلون بعجرفة منقطعة النظير أن بإمكانهم هدم البنيان الذي شيده محمد (ص) وآمن به عبر قرون ملايين من البشر بمثل هذه الترهات التي ينشرونها ولا تعبر سوى عن جهلهم الفاضح بالتاريخ والإسلام معاً، وهو أمر يثير العديد من التساؤلات عن الهدف والدافع من نشر هذه النوعية المبتذلة من المقالات بهذا الموقع .
وبالرغم من أن ال الناصر لعماري يفتقد لأبسط أصول البحث المنهجي ويبدو من خلاله مدى تطفله على التاريخ والتشريع الإسلاميين، كغالبية كتاب الحوار المتمدن، إلى درجة لا يستحق معها حتى مجرد الرد والمناقشة، إلا أنني اعترف له بالفضل في تحفيزي لكتابة هذه الدراسة المصغرة حول هذه القضية الهامة في تراثنا العربي والإسلامي ومدى علاقتها بالمشروع الضخم الذي أسس له النبي محمد (ص) وشمل الجزيرة العربية ككل، بالإضافة إلى طرح بعض الأصدقاء لهذا الموضوع في مناقشة خاصة سبقت قراءتي لهذا المقال .
في الواقع لم يكلف الكاتب نفسه دراسة حركة الصعلكة بتأن وأسبابها الاقتصادية الاجتماعية، وتنوعات المنتمين إليها وبالتالي سبب قبولهم للإسلام كدين في نهاية الأمر بل وتحمسهم الكبير له، واكتفى بتبني الآراء التقليدية حول الصعاليك في مسعى ضحل ومثير للشفقة للنيل من الدين الإسلامي وشخصية النبي محمد (ص)، الأمر الذي يفسر حجم المغالطات التي تبناها، لكن في كل الأحوال فإن هذه الدراسة لا تسعى للرد على مثل هذه الكتابات الهزلية وإنما تسعى لمحاولة وضع مثل هذه القضية في موضعها الصحيح ومناقشتها على أسس علمية بعيداً عن دجل كتاب الحوار المتمدن ورؤيتهم السطحية، معتمداً على منهج المادية التاريخية والذي لا يتوقف عند البحث في الدوافع المباشرة لنشاط البشر التاريخي وإنما عما يولد هذه الدوافع، وبالتالي فهو المنهج الوحيد المؤهل للكشف عن حقيقة هذه المشكلات التاريخية .
فيما يتعلق بعنوان هذا المقال البحثي، فقد تعمدت أن أجعله معكوساً للعنوان الذي استخدمه لعماري في مقاله سالف الذكر، والذي انتشر بغرابة في الكثير من المواقع المعادية للإسلام، وسوف يكتشف القاريء أن استخدام العنوان بهذه الصورة " الصعاليك ومحمد (ص) " أكثر دقة من الناحية التاريخية والاجتماعية، فالواقع أن لعماري، كما يبدو، لم يمعن التفكير في مدلول عنوان مقاله والذي يشير إلى سعي محمد (ص) لاستغلال الصعاليك في صراعاته، بينما يشير العنوان الذي استخدمته إلى أن مجموعات الصعاليك هي التي احتاجت للنبي (ص)، وسعت للدخول تحت قيادته .
"وفي هذا المقال البحثي سوف أبدأ بتناول المعنى اللغوي والاصطلاحي للصعلكة، ثم دراسة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية للجزيرة العربية في المبحث الأول، وفي المبحث الثاني سوف أتناول نشأة حركة الصعلكة وانتشارها قبل الإسلام وأشهر رموزها، وأخيراً علاقة النبي محمد (ص) بالصعاليك وأسباب اعتناقهم للإسلام واستمرار هذه الحركة لفترة عقب وفاة النبي محمد (ص)؛ وفي الخاتمة سأستعرض نتائج الدراسة " .
تمهيد: الصعلكة والصعاليك .. المعنى اللغوي والاصطلاحي
في لسان العرب لابن منظور يقول : " الصعلوك الفقير الذي لا مال له زاد الأزهري ولا اعتماد وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك .. والتصعلك الفقر وصعاليك العرب ذؤبانها وكان عروة بن الورد يسمى عروة الصعاليك لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنمه "[1].
وقد اعتبر الدكتور يوسف خليف أن هذا التعريف الذي ذكره ابن منظور في لسان العرب لا يعبر عن المعنى اللغوي تعبيراً دقيقاً، مشيراً إلى الزيادة التي أضافها الأزهري وذكرها ابن منظور وهي : " ولا اعتماد "، وبالتالي فالمعنى اللغوي الدقيق للصعلوك هو : " الفقير الذي لا مال له يستعين به على أعباء الحياة، ولا اعتماد له على شيء أو أحد يتكئ عليه أو يتكل عليه ليشق طريقه فيها، ويعينه عليها، حتى يسلك سبيله كما يسلكه سائر البشر الذين يتعاونون على الحياة، ويواجهون مشكلاتها يداً واحدة "[2] .
ويقول الدكتور شوقي ضيف في كتابه " تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهلي " : " الصعلوك في اللغة الفقير الذي لا يملك من المال ما يعينه على أعباء الحياة، ولم تقف هذه اللفظة في الجاهلية عند دلالتها اللغوية الخالصة، فقد أخذت تدل على من يتجردون للغارات وقطع الطرق "، ويشير الدكتور شوقي ضيف إلى أن الخلعاء الذين ردوا من قبائلهم لكثرة جرائرهم وأبناء الحبشيات ممن تبرأ منهم آبائهم كانوا يعدون من الصعالكة كذلك[3].
ويرى الدكتور شوقي ضيف أن هذا المصطلح اشتمل كذلك على قبائل بكاملها وصفت بالصعلكة مثل هذيل وفهم اللتين كانتا تنزلان بالقرب من مكة والطائف على التوالي[4] .
ويشير الدكتورمحمد رضا مروة لنفس الخلاف بين المفهومين اللغوي والاصطلاحي : " إنما هم المشاغبون المغيرون أبناء الليل الذين يسهرون لياليهم في النهب والسلب والإغارة، بينما ينعم الخليون المترفون المسالمون بالنوم والراحة والهدوء، وهنا تخرج الكلمة عن الفقر إلى دائرة رحبة وأوسع هي دائرة الإغارة والنهب والسلب . والمتتبع لهذه الظاهرة يرى أن الصعاليك هم طائفة أو طوائف من قطاع الطرق، كانوا منتشرين في أرجاء الجزيرة العربية ينهبون القوافل ويغيرون ويخطفون ويسرقون المال "[5].
"الصعلكة إذن مثلت رد فعل احتجاجي على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الجزيرة العربية قبل الإسلام والتي أدت للتفاوت في الثروة بين القبائل، وانتشار هذا التفاوت داخل بعض القبائل، وبالتالي بروز الاحتجاج على التنظيم القبلي ذاته، ونظراً لافتقاد مجموعات المعترضين للعقيدة الثورية فقد لجئوا إلى قطع طرق القوافل والسلب والنهب من الأثرياء كوسيلة بدائية للتعبير عن هذا الاحتجاج"[6] .
المبحث الأول : الأوضاع في الجزيرة العربية قبل الإسلام
من الممكن وصف شبه الجزيرة العربية بأنها هضبة مرتفعة لا يقل ارتفاع أي جزء فيها عن 1500 قدم عن سطح البحر، وهذه الهضبة تنحدر انحدارين أحدهما نحو الغرب والآخر نحو الشرق، ويبدأ الانحداران من سلسلة جبال السراة في غرب شبه الجزيرة وتمتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب حيث تصل إلى أعلى ارتفاعها وهو عشرة آلاف قدم . أما الانحدار الغربي فهو شديد، وتحصر سلسلة الجبال فيما بينها وبين ساحل البحر الأحمر واد ضيق متوسط عرضه خمسة عشر ميلاً وأقصى اتساع له ثلاثون ميلاً وتتخلله عدة وديان لا يستفاد منها بل كثيراً ما تعوق سير القوافل[7] .
وإذا استثنينا اليمن وعمان وبعض الوديان الواقعة في سلسلة الجبال الغربية وفي نجد والإحساء، فإن شبه الجزيرة العربية في الغالب صحاري ودارات وهي سهول رملية مستديرة بين التلال تستقر تحت سطحها المياه[8] .
وفي الداخل العربي هناك القفار الرملية والحجرية للربع الخالي في الجنوب، وقفار صحراء النفوذ والدهناء في الوسط، وقفار صحراء حسمى وحماد والصحراء السورية في الشمال، وفي الشرق تتواجد سواحل الخليج الفارسي حيث المناخ القاسي الذي يلطفه وجود المياه الجوفية الوفيرة[9] .وبالرغم من غلبة القفار الصحراوية على الداخل فهو يحتوي أيضاً على عدد من الواحات، والمستنقعات الملحية المجففة (السبخات)، والبراكين الخامدة، والهضاب مثل هضبتي نجد وعمان، وتفيد هذه التنوعات من الأمطار الموسمية التي تحدث أحواضاً مائية ومراعي للأغنام والماعز والجمال[10] .
في جنوب شبه الجزيرة هناك تنوعات أخرى، فاليمن، في الجنوب الغربي، هي بلاد الجبال الشاهقة، التي يتفاوت ارتفاعها وتسيطر على السهول الساحلية وعلى ما يليها من الأراضي الداخلية، وتكثر في اليمن الأودية التي تفصل بين سلاسل الجبال متخذة مختلف الاتجاهات من الشمال الشرقي أو من الشمال الغربي إلى سواحل البحر حيث تمثل اتجاهات المياه والسيول التي تنتج عن الأمطار الموسمية[11].
ولا تختلف الجغرافيا في عمان عن اليمن من حيث المرتفعات الجبلية التي تفصل السهول الساحلية عن الداخل، ولا تخترقها سوى ممرات طبيعية محدودة تتميز بالوعورة وصعوبة الارتقاء، كما تعزل صحراء الربع الخالي هذا الإقليم عن باقي أقاليم شبه الجزيرة؛ وبالرغم من انخفاض معدلات الأمطار فمن الواضح أنها كانت كافية جداً بالنسبة للتواجد السكاني، حيث تمتد مياه الأمطار الساقطة على الجبال عبر العديد من الأودية، بالإضافة إلى المياه الجوفية السطحية التي تنبثق تلقائياً على سطح الأرض، والجوفية التي يتم الحصول عليها بحفر الآبار[12] .
إن هذا المعطى الجغرافي ما بين سيادة الصحراء في معظم مناطق شبه الجزيرة، وتواجد المرتفعات والسهول والوديان الخصبة في مناطق أخرى نتيجة الأمطار الموسمية، بالإضافة لسواحل طويلة على البحر الأحمر والمحيط الهندي والخليج الفارسي، وجد أثره في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في شبه الجزيرة العربية .
من الناحية الاقتصادية ساهمت الجغرافيا في تنوع النشاطات الاقتصادية، ما بين الزراعة والتجارة والرعي، بالإضافة لانتشار بعض الحرف كالتعدين بالرغم من نظرة العرب الدونية لهذا النوع من النشاط[13].
ويهمنا في هذه الدراسة كل من الزراعة والتجارة وهما الأكثر أهمية في الحياة العربية قبل الإسلام، فقد أدت وفرة المياه في اليمن إلى انتشار النشاط الزراعي وخاصة زراعة المر والبخور واللبان والتي كان لها أهمية خاصة في المعابد الوثنية القديمة، وهو ما أدى بدوره لانتشار التجارة بين اليمن والمناطق المجاورة وخاصة مصر، التي ارتبطت بعلاقات تجارية قوية مع دولة معين في اليمن، وقد كشف عن نقش مصري تكريمي دونه الكهنة المصريون بالخط المسند العربي لتاجر معيني اسمه زيد إيل بن زيد كان يقوم بإمداد المعابد المصرية بهذه المنتجات اليمنية ويستورد من مصر الأقمشة الكتانية[14]،كما يشير أحد هذه النقوش إلى تواجد تجاري يمني في جزر البحر المتوسط وخاصة جزيرة ديلوس اليونانية[15].
كانت القوافل التجارية البرية هي وسيلة الانتقال التجاري من اليمن في الجنوب إلى الشمال سواء الشام أو مصر أو العراق، ويبدو أن هذه القوافل كانت تتعرض لاعتداءات من القبائل البدوية في طريقها، كما يشير نقش جلاسر، وهو ما دفع اليمنيين إلى إنشاء مستعمرات تجارية على طول هذه الطرق لتأمين القوافل مثل مستوطنة واحة دادان (العلا حالياً في الحجاز)[16] .
لقد أدى تأسيس هذه المستعمرات على طرق التجارة إلى ازدهارها الاقتصادي وازدهار القبائل المقيمة فيها، إلى درجة قيام بعضها بتأسيس ممالك كمملكة لحيان في دادان والأنباط في البتراء ومملكة تدمر، ودولة كنده[17]،كما ازدهرت مدينة مكة وقبيلة قريش المقيمة فيها نتيجة اشتغالها بتجارة العبور ما بين الجنوب والشمال، وقيامها بعقد معاهدات الإيلاف بينها وبين القبائل البدوية على طريقها التجاري لحماية قوافلها وبينها وبين حكومات الدول المجاورة كذلك[18] .
كانت العلاقات التجارية الوثيقة بين اليمن والموانئ الهندية من أهم أسباب ازدهار التجارة العربية وقد حرص العرب الجنوبيين على احتكار الطريق البحري بينهم وبين الهند والذي كانت تتم عبره نقل التوابل والمواد العطرية إلى الشمال ومصر ثم أوروبا[19]،على أن ظهور مملكة العرب الأنباط في الشمال بالبتراء، وإمبراطورية البطالمة في مصر، كمنافسين للعرب الجنوبيين في اليمن كلف الدولة السبئية الكثير من الخسائر الاقتصادية، خاصة عندما سعي البطالمة في مصر للسيطرة على طرق التجارة المتوجهة إليهم سواء عبر البحر الأحمر أو عبر الطرق البرية[20]،وتوجت محاولاتهم بنجاح البحار البطلمي هيبالوس في اكتشاف طرق الإبحار إلى الهند في القرن الأول قبل الميلاد[21]الأمر الذي قلل من قيمة طرق القوافل البرية[22]،والتي سعى الأنباط بدورهم للسيطرة عليها ودخلوا في صدامات مع البطالمة للسيطرة على الطرق البحرية، وقد أدت هذه المنافسات لسقوط الدولة السبئية في سنة 115 م، وبزوغ نجم الحميريين الذين استفادوا من تحول طرق التجارة إلى البحر الأحمر[23] .
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد قامت الدولة الرومانية التي ورثت السيطرة على الشرق بالقضاء في القرن الثاني الميلادي على مملكة الأنباط العرب، ثم قضت على مملكة تدمر في القرن الثالث الميلادي، وقضى الفرس على مملكتي ميسان والحضر العربيتين في منتصف القرن الثالث[24]،في ذات الوقت الذي عاشت فيه المملكة الحميرية التي نجحت في توحيد ممالك اليمن القديم تحت سلطتها، عدد من المشاكل نتيجة الأطماع الرومانية والحبشية، والمنازعات الدينية التي أدت في النهاية لسقوطها تحت سيطرة الأحباش ثم الفرس[25] .
وبديهي أن تتأثر التجارة البرية بهذه التطورات والصراعات، وبالرغم من أن سقوط الأنباط والتدمريين قد أدى لاستقلال تجار بعض المدن التي نشأت كمحطات استراحة للقوافل التجارية بين الجنوب والشمال في الجزيرة العربية، مثل مدينة مكة، حيث أصبحت لهم مشروعاتهم التجارية في نقل التجارة بين الجنوب العربي وباقي الأقطار المحيطة، وهو ما ساهم في ازدهار أوضاعهم الاقتصادية[26]، إلاأن هذا الازدهار لم يلبث أن عانى من عودة الأوضاع السياسية للاضطراب في اليمن خلال الصراعات التي اتخذت مظهراً دينياً بين اليهود والمسيحيين في اليمن وتدخل فيه الأحباش الذين كانوا يسعون لإيجاد موطئ قدم لهم في هذا الصراع التجاري، بالإضافة لمحاولات الدولة الساسانية الفارسية للسيطرة على طرق تجارة الحرير والتوابل ما بين الشرق الأقصى والعالم واحتكارها، وهو ما أدى لاضطرابات كبرى في الأوضاع الاجتماعية في الجزيرة العربية[27] .
ومن الناحية الاجتماعية، وكنتيجة لهذا الموانع الجغرافية، فقد سادت القبلية في سائر شبه الجزيرة العربية القائمة على وحدة الدم بين أبناء القبيلة الواحدة، وبالرغم من التطور الحضاري في بعض المناطق كاليمن، فقد استمرت العصبية القبيلة تمثل الأساس الاجتماعي، وإن كان ازدهار التجارة قد خفف من بعض آثارها[28].
من ناحية أخرىيبدو أن النشاط التجاري قد أدى، في مراحله المختلفة، إلى وجود قدر كبير من التفاوت في الثراء بين القبائل العربية التي تقيم بمناطق مرور القوافل التجارية وتلك التي تقيم في مناطق بعيدة عن خطوط التجارة أو التي هجرتها القوافل لأسباب سياسية[29]،لكنه في مرحلته الأخيرة والتي شهدت هذا القدر من الاضطراب السياسي، أدى، بالإضافة إلى التفاوت سالف الذكر بين القبائل، إلى تفاوتات بين أبناء كل قبيلة كذلك نتيجة المنافسات التجارية بين أبنائها، حيث برزت في كل حاضرة تجارية، مثل مكة على سبيل المثال، أسر حققت ثراء فاحشاً من التجارة وأسر أخرى فقيرة أو تعرضت حالتها المادية للتدهور، مما ساهم في بروز صيغة اجتماعية جديدة قفزت فوق الصيغة القبلية المرتبطة بقرابة الدم إلى صيغة تضع في اعتبارها المصالح التجارية للتجار المتنافسين، وهي الأحلاف كحلف لعقة الدم وحلف المطيبين وحلف الفضول والأحابيش، بالإضافة لتواجد عدد كبير من العبيد متنوعي الأعراق[30] .
من الناحية السياسية، ساهم هذا الواقع الجغرافي المتنوع ووجود العوازل الطبيعية وسيادة المجتمعات القبلية في عدم قدرة العرب على تحقيق وحدة سياسية حقيقية في إطار دولة مركزية، وحتى بالنسبة للممالك التي قامت في شبه الجزيرة العربية فقد كانت تعتمد في طبيعتها على التحالفات بين القبائل المختلفة مع الاعتراف بسيادة بيت مالك على هذه القبائل، وقد تمثل هذا الأسلوب في نظام الأقيال والأذواء في اليمن، حيث كانت تتولى كل أسرة من الأقيال (الأمراء) الحكم المحلي في مقاطعة بعينها، يعينها على السيطرة عليها قبيلة من حملة السلاح وملاك الأرض في آن واحد[31]،ولم تكن الممالك العربية الأخرى تختلف كثيراً في جوهر نظامها السياسي عن هذا الأسلوب[32]، ناهيكعن انقسام معظم عرب الشمال والوسط إلى قبائل متباعدة في تواجدها، تفصل بينها الصحراء[33].
وبصورة عامةكان لنظام الأقيال دوره الهام في الاضطرابات السياسية في اليمن نتيجة الصراعات والانقسامات التي شهدتها في نهاية حكم الدولة السبئية والتي أدت لصعود الحميريين (الريدانيين) إلى السلطة[34].
وهنا من الضروري الإشارة إلى أن استخدام لقب ملك في الفترة السابقة على الإسلام لم يكن يدل على قيام نظام ملكي متطور، وإنما استعملت لتدل على شيخ القبيلة أو سيدها[35] .
،، يُتبع ،،
[1] ابن منظور (جمال الدين محمدبن مكرم) . لسان العرب . طبعة وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوةوالإرشاد . الرياض 2010 . ج 12 ص 342 . مادة صعلك .
[2] يوسف خليف . الشعراءالصعاليك في العصر الجاهلي . طبعة دار المعارف . الطبعة 3 . القاهرة 1978 . ص23 .
[3] شوقي ضيف . العصرالجاهلي . طبعة دار المعارف . الطبعة 11 . القاهرة (بدون ذكر سنة الطبع) . ص375 .
[4] م . س . ص 375 .
[5] فهد بن إبراهيم بن سعدالبكر . الشعراء الصعاليك الذاتية والخصوصية . مجلة دراسات أدبية . مركزالبصيرة للبحوث والاستشارات والخدمات التعليمية . الجزائر 2011 . ع 9 ص 101 .
[6] علاوة ناصري . الشاعروالسلطة قراءة في شعر صعاليك العصر الجاهلي . مقال بمجلة مفاهيم للدراساتالفلسفية والانسانية المعمقة . جامعة زيان عاشور – الجلفة . الجلفة مارس 2019 .
العدد الخامس . ص 273، 274 .
[7] نبيه عاقل . تاريخ العربالقديم وعصر الرسول . دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع . الطبعة الثالثة .دمشق 1983 . ص 19 .
[8] م . س . ص 20 .
[9] م . س . ص 26 .
[10] م . س . ص 27 .
[11] م . س . ص 26 . جواد علي . المفصلفي تاريخ العرب قبل الإسلام . بدون ذكر دار النشر (ساهمت جامعة بغداد في نشره). الطبعة الثانية . بغداد 1993 . ج 1 ص 145 .
[12] أسمهان سعيد الجرو وآخرون .تاريخ عمان ودراسات في الحضارة الإسلامية . منشورات جامعة السلطان قابوس . الطبعةالثانية . مسقط 2009 . ص 5-8 .
[13] جواد علي . المفصل فيتاريخ العرب قبل الإسلام . م . س . ج7 ص 543، 544 .
[14] حسين الشيخ . العرب قبلالإسلام . طبعة دار المعرفة الجامعية . الطبعة الأولى . الإسكندرية 1993 . ص76، 77.
[15] م . س . ص 77 .
[16] م . س . ص 77 .
[17] سبتينو موسكاتي . الحضاراتالسامية القديمة . ترجمة / السيد يعقوب بكر . طبعة دار الكتاب العربي للطباعةوالنشر، دار الرقي . الطبعة الأولى . بيروت 1983 . ص 202 – 204 .
[18] م . س . ص 205، نبيه عاقل .م . س . ص 252، 253 .
[19] أحمد بن حسين شرف الدين . اليمنعبر التاريخ . مطبعة السنة المحمدية . الطبعة الثانية . القاهرة 1964 . ص 136،137 .
[20] عبدالله بن عبدالرحمن العبدالجبار . تجارة الأنباط البحرية بينالقرنين الرابع قبل الميلاد والثاني الميلادي . المجلة الأردنية للتاريخوالآثار . عمان 2011 . م5 ع3 ص 3 – 5 .
[21] حسن صالح شهاب . أسطورة هيبالوس والملاحة في المحيط الهندي .دراسة بمجلة رسائل جغرافية . الكويت 1987 . عدد أغسطس . ص 3 – 5 . في هذهالدراسة يعترض الدكتور حسن صالح شهاب على كون اليوناني هيبالوس هو أول من اكتشف
طريقة الابحار باستخدام الرياح الموسمية الجنوبية الغربية، مؤكداً على أن العرب
استخدموها في رحلاتهم التجارية إلى الهند .
[22] عادل حسين الرحامنة . تاريخ دولة سبأ منذ القرن العاشر قبلالميلاد حتى القرن الثاني قبل الميلاد . رسالة ماجيستير في التاريخ القديمقدمت لقسم الدراسات العليا التاريخية والحضارية بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية
في جامعة أم القرى . مكة المكرمة 1990 . ص 312، 313 .
[23] م . س . ص 313 .
[24] سبتينو موسكاتي . م . س . ص 204 ، نبيه عاقل . م . س . ص 139، 140، واثق إسماعيل الصالحي . نشوء وتطور مملكة ميسان (دراسة تاريخية وأثرية) .دراسة بمجلة المورد . تصدر عن وزارة الثقافة والإعلام العراقية . بغداد خريف 1986
. م15 عدد 3 ص 16 .
[25] م . س . ص 193 ، م . س . ص 102 – 105 .
[26] م . س . ص 228، 229 . يرى الدكتور نبيه عاقل أن ازدهار مكةالتجاري قد توج في نهاية القرن السادس الميلادي بوقوع معظم التجارة بين اليمن
والشام تحت سيطرتهم، وأعتقد أن هذا الازدهار بدأ من أواخر القرن الثالث، عقب سقوط
ممالك الأنباط وتدمر والحضر، وهو ما يدل عليه معرفة الكتاب اليونان بها .
[27] آرثر كريستنسن . إيران في عهد الساسانيين . ترجمة / يحيىالخشاب . مراجعة / عبدالوهاب عزام . طبعة دار النهضة العربية للطباعة والنشر .
بيروت (بدون ذكر رقم الطبعة وسنة النشر) . ص 116، 117 ، جورج فضلو حوراني . العربوالملاحة في المحيط الهندي في العصور القديمة وأوائل القرون الوسطى . ترجمة /السيد يعقوب بكر . مراجعة / يحيى الخشاب . طبعة مكتبة الأنجلو المصرية . القاهرة
(بدون ذكر سنة الطبع ورقم الطبعة) . 91 – 94 . أشار الكاتب إلى قيام مملكةأكسوم في أواخر القرن الثالث الميلادي بحملة عسكرية على عرب الحجاز في محاولة
لحماية أساطيلها التجارية من قرصنتهم، ثم غزت اليمن الحميرية لفترة قصيرة .
[28] جواد علي . م . س . ج4 ص 313 – 316 .
[29] م . س . ج3 ص 84، 129 . أشارالدكتور جواد علي إلى أن سقوط دولة الأنباط قد أدى لانتقال أسواقها من البتراء إلى
تدمر، والتي بدورها خسرت مركزها التجاري وتحولت عنها طرق التجارة عقب سقوطها في
أيدي الرومان .
[30] م . س . ج4 ص 366 – 369 ، نبيه عاقل . م . س . ص264 .
[31] محمد عبدالقادر بافقيهوآخرون . مختارات من النقوش اليمنية القديمة . طبعة المنظمة العربية للتربيةوالثقافة والعلوم . تونس 1985 . ص 30، 31 .
[32] نبيه عاقل . م . س . ص 61 .
[33] م . س . ص 266 .
[34] بافقيه .م . س . ص 31 – 36 .
[35] نبيه عاقل . م . س . ص 65 .يشير الدكتور نبيه عاقل إلى نقش نبطي عثر عليه في أم الجمال ويعود تاريخه لسنة250 م يتحدث عن ملك قبيلة تنوخ .