صناعة الدواء العربية
أين نحن اليوم؟

 

معمر نصار


صورة تزمينية عامة للوضع:
تعد صناعة الدواء بالمعايير العلمية والتكنولوجية المعاصرة في الوطن العربي حديثة نسبيا، وتعد مصر أقدم البلدان العربية التي دخلت إلى هذه الصناعة برؤوس أموال محلية تعود إلى الثلاثينيات، فيما بدأ قطاع الصناعة الدوائية في سوريا خطا بدائيا بمنتصف الخمسينيات. ومع حلول أواخر الستينيات، تأسست معامل دواء حكومية بطاقةٍ إنتاجية متوسطة ولم يكن إنتاج البلد يغطي ما يزيد عن 18% من استهلاك الدواء حتى ذلك الوقت (1)، لكنه حصل على دفعه القوي بعد عام 1985 وبدء تطبيق العقوبات الغربية على سوريا، ما حدا بالرئيس الراحل حافظ الأسد التوجيه بزيادة عدد المعامل الحكومية وفتح المجال للقطاع الخاص لإنشاء معامل جديدة وصلت إلى 72 معملاً قبل الغزو الإمبريالي الأخير. وحسب جريدة البعث السورية، فإن حجم تغطية الإنتاج المحلي للاستهلاك الداخلي من الأدوية قد بلغ عام 2010 ما يقارب 91% فيما بلغت صادرات قطاع الدواء السورية حوالي 220 مليون دولار، أغلبها صادرات إلى دول أفريقيا (2). تأتي الجزائر عربيا في المرتبة الثالثة من حيث نشأة الصناعة وحجم التغطية في الإنتاج المحلي. فالجزائر بدأت صناعة الأدوية مبكرا بناءً على قواعد إنتاجية تعود للمستعمر الفرنسي لخدمة الوجود الاستيطاني الفرنسي في الأساس، ولم يكن يستهدف أو يغطي بقية السكان الأصليين، لا سيما سكان البوادي والواحات والمناطق البعيدة عن المراكز الحضرية. لكن الجزائر بدأت مبكرا بقرارات جمهورية بتأسيس الصيدلية العامة، وهي المؤسسة التي تولت احتكار وتنظيم استيراد الأدوية وتوزيعها وإنتاجها وتوفير خامات الدواء للصناعة. كما قامت بتحويل معهد باستير الفرنسي (فراع الجزائر) إلى مؤسسة بحثية وإنتاجية مطلع السبعينيات لتغطي بحلول الثمانينيات قرابة 28 % من احتياجات الدواء المستهلك محلياً (3). لكنها لم تراوح ذلك الوضع كثيرا، رغم التحولات الهيكلية اللاحقة التي استلزمت تقسيم الصيدلية العامة إلى ثلاث مؤسسات منفصلة: واحدة لاستيراد الدواء وخاماته، وأخرى لتصنيعه، والثالثة لتوزيعه. ومع نهايات الثمانينيات وفتح السوق أمام الاستثمارات العالمية المباشرة في إنتاج الدواء وتطوير القاعدة الصناعية، زادت قدرة الإنتاج الوطني على تغطية الاستهلاك المحلي بما يقارب 70%. لكن ما يميز التجربة في الجزائر حرص الدولة على الإبقاء على مجمع "صيدال" العام لإنتاج وتوزيع الأدوية بنسبة محتكرة حرصا على السيادة الصحية (4).
تحت وطأة الحصار الغربي والغزو العسكري فقدت صناعة الدواء السورية أكثر من نصف طاقتها، حيث تعرض العديد من المعامل للسرقة وتم بيعها في تركيا، كما إن الزيادة في سعر صرف الدولار جعلت الصناعة في موقف صعب، ولم تعد سورية قادرة على تحقيق الاكتفاء الذي كان موجودا عشية الغزو. على الجهة المقابلة ينتاب الجزائر قلق من المورِّدين الأوروبيين، خصوصا شركة "نوفونورديسك" النرويجية التي تتحكم في مدخلات صناعة الأنسولين. وجدير بالذكر إن الجزائر تعد الدولة العربية الرائدة التي تنتج الهرمونات وحبوب منع الحمل، لكن رغم ذلك لا تزال الصناعة تعاني عبء التكلفة العالية لمدخلات الإنتاج (5).

ظواهر التركيز وحقيقة دور الاستثمار المباشر 
وأما مصر، فقطاع صناعة الدواء فيها معقد أكثر وتركيبته ومشكلاته في حاجة إلى نقاش أكثر تفصيلا، حيث تعرضت شركات القطاع العام لعملية إفشال ممتدة ودؤوبة منذ دخول الاستثمارات الغربية العملاقة إلى السوق المصري مع حضور شركة "فايزر" عام 1987، ثم تبعتها الشركات العملاقة الواحدة تلو الأخرى. كما يعاني السوق الدوائي فيها من ظاهرة التركيز، حيث تستحوذ عشرة مصانع من بين أكثر من 160 مصنعاً على نصف حصة السوق البالغة أكثر من ستة مليارات دولار (6) والتي تستحوذ الاستثمارات الخاصة بالشركات العملاقة على حصة الأسد منها، مع ما يعنيه ذلك من ضغط كبير على العملة الوطنية في صورة أرباح محوَّلة للخارج. وهذا الأمر يختلف عن الحال في الجزائر التي يعتبر مُعامل التركيز فيها، وفقاً لمؤشر هيرشمان وهيرفندال تحت المتوسط (7)، وإن كانت المنافسة ذات طابع احتكاري. هذا في حين أنه لا توجد في مصر دراسة واضحة تبيّن مُعامل التركيز وإن كانت أرقام حصص السوق تعكس صورة مبدئية تبيّن أن القطاع الأجنبي مع شركتين محليتين أو ثلاثة يتقاسمون الجانب الأعظم من حصة السوق، مع حصص أقل للشركات الخاصة الكبيرة تليها الشركات العامة ثم الشركات الأصغر الأخرى، وهكذا حتى تنتهي بشركات لا تملك أية مستحضرات في سوق الدواء وتقتصر على التصنيع لصالح الغير (السابق). ورغم تغطية الإنتاج في مصر لقرابة 98% من الاستهلاك المحلي للدواء، إلا أن هناك أمرا ملفتا مرتبطا بحالة مصر. فعلى عكس الجزائر، التي ارتبط حضور الاستثمار المباشر الأجنبي فيها مع تزايد قدرة الإنتاج المحلي على سد الاستهلاك الوطني بقدر ملحوظ انطلاقا من قرابة 30% عند بداية دخوله إلى الجزائر (أواخر الثمانينيات أيضا)، وصولا إلى أكثر من 70% في الوقت الحاضر؛ فإن الاستثمار الأجنبي في هذا القطاع في مصر قد دخل السوق ونسبة الاكتفاء الذاتي لدى مصر أكثر من 91%، أي إن حجم الإضافة في سد فجوة الاستهلاك (فقط 7%) ليست ذات قيمة كبيرة وغالبا فإن القطاعين العام والخاص المصريين كانا ليقوما بسدها في كل الأحوال. وهو ما يعكس أن دور الاستثمار الأجنبي في مصر كان في غالبيته الاستحواذ على السوق وطرد المنافسين المحليين وليس إدخال أصناف دوائية تعجز منظومة الإنتاج الوطنية عن تصنيعها. ومن الواضح أن شركات القطاع العام كانت هي الخاسر الأكبر من وجوده، حيث اختفت منتجاتها من سوق الدواء تباعاً وانحصرت الغالبية منها في توفير أصناف متخصصة قليلة العدد في سوق الدواء لا تقوم الشركات الأخرى بمزاحمتها فيها. لا تزال تلك الشركات تعمل وتحقق أرباحا رغم الحصار المالي الذي تفرضه التشريعات الحكومية عليها بحرمانها من الاقتراض من القطاع المصرفي كما تقييد تعيين أيدٍ عاملة جديدة في هذا القطاع، وهو أمر بالغ الأهمية، وهو العائق الذي وضع أمام القطاع العام كله منذ السبعينيات لتخسيره.
البنية التجميعية لصناعة الدواء العربية
رغم الحقيقة الهامة حول دور الصناعة الوطنية للدواء في توفير العلاج للمواطنين إلا إنه مشوبٌ بعيب بنيوي خطير، وهو ارتكازها على عمليات تجهيز المستحضر الدوائي في الصورة الدوائية النهائية ولا تقوم بإنتاج المستحضر الدوائي نفسه، أي المواد الفعالة. وكمثال، فإن مصر تستورد 85% من مدخلات الدواء من الخارج فيما تستورد سوريا تقريبا 100% من المدخلات، حتى إنها تستورد الفيالات وأشرطة الحبوب البلاستيكية. الجزائر لديها ضمن مؤسسة صيدال الحكومية وحداتٌ تنتج بعض المدخلات لكنها لا تزال تعتمد في تسعين بالمئة منها على الاستيراد. أما في حالة مصر، فإن انخفاض النسبة يعود إلى وجود الشركات العامة المتخصصة في إنتاج الكيماويات الدوائية والتي تأسست ضمن مشروع الخطة الخمسية الثانية تحت مؤسسة الدواء القومية لتوطين صناعة الدواء (8). مع تأسيس معهد البحوث الطبية، تأسس كمعهد طبي مستشفى تعليميٌّ صغير في عام 1945، ثم في عام 1956 أدخلت حكومة ثورة يوليو بنك الدم إليه ثم حولته في عام 1962 مع تأسيس مؤسسة الدواء إلى معهد للبحوث الطبية يقوم بالمراحل الكاملة لتطوير الدواء، من اختيار المادة الفعالة وتحديد الهدف العلاجي الجزيئي إلى المراحل ما قبل السريرية ثم المراحل السريرية، وقد أضيفت إليه لذلك أقسام علم الأدوية والعلاج الإشعاعي وكيمياء الأورام والمناعة وأمراض الدم وغيرها. وقد مرت به بعض التجارب حسب شهادات بعض أقدم العاملين فيه وصلت إلى المراحل قبل السريرية في أواخر الستينيات، حيث احتوى بيت الحيوان في المعهد على القرود والكلاب اللازمة للتجريب في تلك المرحلة)، لكن التجربة تجمدت منذ استيلاء الطبقة التابعة على الحكم مجددا بوفاة قائد الثورة جمال عبد الناصر عام 1970. تنتج شركة السلسيوز المصرية وشركات مصر للمستحضرات الطبية وغيرها مواد "السواغ" المضافة للمستحضرات الفموية، وهذا يسد حوالي عشرة بالمئة من احتياجات الصناعة. وتنتج شركة النصر الدوائية مستحضرات "السلفا" و"الباراسيتامول" ومشتقات أخرى تسهم في سد الخمسة بالمئة الباقية، لكن تبقى معضلة تصنيع خامات المواد الفعالة التي تعد بالمئات، وهي حجر الحائل دون توطين الصناعة بالكامل. يُبرز الموقف المعقد في سوريا الحاجة الماسة إلى توطين صناعة الدواء العربية، كما تَبرز خطورة الركون إلى الانطلاقة الرقمية للقطاع الخاص الذي أقبل بقوة على الاستثمار في هذا القطاع بسبب ربحيته العالية جدا دون أن يكلف نفسه عناء سد فجوة الخامات أو الانتباه إلى الخطر الماثل في العقوبات الجائرة التي تفرضها الدول الاستعمارية الغربية بهدف تقويض سلامة المجتمعات المحيطية لتجعلها في حالة افتقار وعوز دائمين.

الاستثمار الأجنبي المباشر وخدعة نقل التكنولوجيا
لم يقم القطاع الأجنبي، رغم مرور 35 عاما على وجوده في السوق المصرية، بنقل أي مراحل من إنتاج المواد الفعالة أو الاختبارات السريرية على الأدوية الجديدة إلى مصر، لكنه في ذات الوقت وعبر الاتفاقات الدولية حقق وضع المحتكر والمتصرف بأمره منذ اتفاقية "تريبس" في جولة أوروجواي خلال مفاوضات الجات عام 1991، التي ألزمت الحكومات بعدم اتخاذ أية تدابير تضر بالملكية الفكرية للاستثمار الأجنبي إلا في حالات اندلاع الجوائح أو الكلفة الصحية العالية، وهو الأمر الذي لم تستخدمه حكومة مصر لدى معالجتها لأزمة فيروس سي. وعلى عكس الهند، التي ضربت بحقوق فايزر في عقار الإيدز عرض الحائط، قامت مصر بالتفاوض ودفع إيجار للمالك عن نقل حق التصنيع لبعض الوكلاء المحليين اللذين حققوا أرباحا خيالية من وراء تسعير علبة الدواء بمبلغ 400 دولار في بلد يقدّر عد المصابين بالفيروس فيه بخمسة وعشرين مليونا. تخيّل حجم الكلفة التي تحملتها مصر دون داع، فتحت أيّ ضغط رضخت مصر لذلك؟
إن شركة فايزر الأمريكية العملاقة تعمل في مصر منذ أواخر الثمانينيات وتعد من أبكر الشركات العالمية التي دخلت السوق المصري، وهي شركة ترتكز على تطوير أدويتها بنفسها. ورغم أن مصر تعد حقلا خصبا للتجربة السريرية بحكم توطّن المرض فيها، فإن الشركة لم تقم بنقل ولا خطوة واحدة من خطوات تطوير الدواء إلى مصر، ولا حتى المرحلة الأخيرة، حرصا على إبقائها في الجانب المعتم من عملية تطوير الأدوية. وهنا يبرز كذب ونفاق العبارات الرنانة التي تملأ الاتفاقيات المكبّلة مثل الـ "تربس" و"أوبوف" التي تطنطن حول هدف تلك الاتفاقيات بأنه نشر التكنولوجيا وتشجيع الابتكار. فالعكس هو الصحيح تماماً، ونحن لم نتناول بعد أثار تلك الاتفاقيات والحضور الثقيل للاستثمارات المباشرة للعمالقة الكبار على قدرة أي بلد نامٍ على تسجيل براءات اختراع في هذا المجال.
ومع ذلك نجد بلدانا، كالهند، استطاعت في الفترة ما بين 1996 و2004 أن تصبح مصنع العالم في الخامات الدوائية والتي أصبحت المورِّد الرئيس لمدخلات الصناعة لأغلب الدول النامية والفقيرة، وهو ما يطرح السؤال حول التراتبية الدولية المجهولة (للرأي العام) التي وقعت عليها حكومات مصر والبلدان العربية عند انضمامها لاتفاقية التجارة العالمية، وللحديث بقية!

المراجع
1- صناعة الدواء في مصر. دراسة جغرافية. د. فاطمة مصطفى محمد سعد. جامعة الأزهر. مجلة الدراسات الإنسانية. عدد 2015
2- مجلة البعث الأسبوعية- 31 أغسطس 2022
3- الاتحاد العربي لمنتجي الأدوية والمستلزمات الطبية، النشرة السنوية 2007
4- مجلة الاجتهاد للدراسات القانونية والاقتصادية.Volume 7, Numéro 6, Pages 531-547
2018-11-08
5- الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، النشرة السنوية لحركة الإنتاج والتجارة الخارجية والمتاح للاستهلاك من أهم السلع الصناعية)، القاهرة، نوفمبر 2012/2011 ( م . 2014
6- عبد السلام مخلوفي، أثر اتفاقية TRIPS على الدول النامية في ما يتعلق بمجال نقل التكنولوجيا، أطروحة دكتوراه، غير منشورة، جامعة الجزائر، 2008، ص -213 215
7- https://www.asjp.cerist.dz/en/downArticle/83/10/1/119736 إكرام قمري، العيد قرشي. دراسة تحليلية لمؤشرات تركز الصناعة الدوائية في الجزائر سنة 2017. مجلة الاقتصاد الصناعي (خزارتك) (Industrial Economics Journal –Khezzartech) المجلد 10، العدد 1، ص ص. 133-149، 2020. ISSN:1112-7856/ EISSN: 2588-2341
8- عبد الخالق فاروق. الصحة وأحوال الفقراء في مصر. مكتبة الشروق الدولية. القاهرة. 2013. ص 66