ملاحظـــات فى  جـذور نشـأة المشـروع الاسـتعمارى الصـهيونى 

 

 

 

broken image

أ.د. أحمد محمد البغدادى 

هذه الملاحظات هى خلاصة مُقدمة كتاب: " التغلغل الصهيوني في مصر، تاريخ الحركة الصهيونية وتنظيماتهـا منذ بدايـة النشاط الصهيوني في مصر وحتى نكبــة فلسطين (1897 ـ 1948م) لأسـتاذنا الدكتـور: محمد مدحت مصطفي ـ أسـتاذ الاقتصـاد الزراعـي بجامعـة المنوفيـة ـ تحت الطبع ـ وقد راجع الكتاب لغويا الصديق الناقد الأستاذ . سعيد الصباغ .

 

الحارة الفلسطينية مُتفرعة من الحارة المصرية؛ والعكس صحيح. هذه واحدة من حكايات الشوارع فى التاريخ. هل تريد العنوان؟. اسمح لى ـ عزيزي القارئ ـ أن أبدأ مع المستعمر الغربي وأحد مشروعاته الكبرى؛ وهو " الحرب ". تشعل الرأسمالية الحروب؛ وتخرج منها أكثر شراسة ، ولقد شهدت الحرب العالمية الأولى على هذه الظاهرة . ظهرت الدبابات والغواصات فى ميدان المعارك ؛ وأصبحت الحرب أشد فتكا ودمارا ، وبفضل ذلك التطور التقني : أصبحت الآلة العسكرية للاستعمار أكثر تفوقا . وهو الأمر الذى مكنها من التدخل في أى بقعة من العالم؛ فى أسرع وقت ـ بل وتوجيه الضربات العسكرية المُدمرة من بُعد!.

وهكذا أصبح بإمكان المستعمر أن يستغنى تدريجيا عن تواجده العسكري ـ المُباشر ـ فى مستعمراته . ومن هنا ظهرت للوجود فكرة " البديل الاستعماري " ، وخلاصتها : أن يعتمد المستعمر على وكيل يقوم بمهامه الاستعمارية فى مناطق نفوذه. بالطبع ينبغى أن يمتلك هذا الوكيل قاعدة عسكرية متقدمة ومتفوقة؛ فى المناطق المحيطة به. وفى ذات الوقت: يقوم المستعمر بإنشاء مجموعة من التحالفات؛ في الأقاليم التي تخضع لنفوذه الاستعماري. تتنوع هذه التحالفات: فقد تأخذ شكل أحلاف عسكرية؛ أو منظمات إقليمية. وقد تتم عن طريق المؤازرة التي يقدمها المستعمر؛ إلى مجموعة من الأنظمة والأسر الحاكمة.

وكما نلاحظ: تقوم هذه الأفكار: على " يـد عليـا" تهدد وتضرب. و " يـد سـفلى " تخضع وتمول!. أما اليد العليا: فهو الوكيل الاستعماري الذى حدثتك عنه. بينما تشير اليـد السـفلى إلى المستعمرات، التي كانت تحصل بالتدريج على قدر من الاستقلال الداخلي. وفي هذا إجابة على السؤال التالي: لماذا يقوم الاستعمار الغربي بدعم بعض النظم الحاكمة في مستعمراته السابقة؟. ولماذا لا يستنكف عن رعاية الحركات الرجعية في تلك النظم؟. بالطبع نعرف ـ حضرتك والعبد لله: ما تفرزه تلك الحركات من تخلف وانقسام وفُرقة بين شعوبها. ونعرف أيضا: شرائط التبعية الدائمة للاستعمار؛ وكيف يمكن إحكام عقدتها من فترة لأخرى.

فى هذه التربة الخبيثة: نشأت العلاقة التاريخية بين القوى الاستعمارية من جهة؛ وبين النظم المُستبدة من جهة أخرى. وتلقفت الصهيونية: دعوة الاستعمار؛ وهو يدعوها لتقوم بدور اليـد العليـا في منطقتنا. الدراما هنا: أن فلسطين كانت فى طريقها للاغتصاب؛ وأن الدماء الأولى التي أُريقت فى هذا المشروع الاستعماري: كانت الدماء المصرية. تُرى كيف تم ذلك:

1) سنوات أربع هي عمر الحرب العالمية الأولى: كابد فيها أكثر من مليون وسبعمائة ألف مصرى: ويلات السخرة. كانوا يُساقون بالكرابيج؛ ويُعاملون كالأنعام. وهم يعملون في خدمة جيوش الإنجليز وحلفائهم. يمهدون لهم الأرض ويحفرون الآبار ويجرون الآلات... كانت تلك الجيوش تزحف شرقا إلى سيناء؛ في طريقها إلى فلسطين. وكانت تحمل حجرا: ألقمته العرب؛ ثم جعلته حجر الأساس للكيان الصهيونى فى فلسطين.

2) وسنوات بعدها: خضعت فيها فلسطين للانتداب البريطاني. كان نظام "الانتـداب " هو الإطار القانوني الذى فرضه الاستعمار؛ للاعتراف بحقوقه الاستعمارية على المستوى الدولي. وكان الغطاء الذى تسترت خلفه بريطانيا وفرنسا؛ لتقسيم وحكم منطقة الشـــام والعـــراق؛ طبقـا لمعـــاهدة " ســـايكس بيكـــو " سنة 1916م.

3) كان المستعمر البريطانى خلال فترة الحماية أو الانتداب على فلسطين: الحليفالأول للصهاينة. كُل مهاجر يهودى؛ وكل قطعة سلاح .. كل قرية خُربت؛ وكل امرأة بُعثرت أحشاؤها: تشهد على هذا المستعمر وحلفه وجريمته!. هلا أجبتنى عزيزي القارئ: لماذا لم نطالب المستعمر ـ يوما ـ بتحمل مســئوليته عــن تلك الجرائــم؟. بالطبـــع نـــعرف ـ حضرتك والعبد لله ـ أن القانون الدولي يُلزم المستعمر بتعويض ضحاياه ماديا وأدبيا. هلا أجبتنى إذن: لماذا كل هذا الخجل والحياء والأدب: ونحن نتعامل مع المستعمر؟!.

broken image

صورة : عمال مصريون يقومون بتوصيل خط لأنابيب المياه في سيناء اثناء الحرب العالمية الاولى

 

في تلك السنوات ـ وماقبلها ـ كانت الصهيونية قد نجحت فى ترويج فكرتها؛ وسعيها الاستعمارى فى فلسطين. يحتاج الاستعمار إلى كيان شـبيه بـ " دولة أوروبية "؛ تحمى مصالحه في المنطقة العربية. وكأنما كان المستعمر الغربي يقوم باستنساخ كيان أوروبي في منطقة يعيش فيها " الهمج ... الضعفاء ". هنا يمكنك عزيزي القارئ: أن تستمع إلى نابليون بونابرت ـ المستعمر الغازي ـ وهو على أبواب عكا؛ في إبريل سنة 1799م. في ذلك الوقت: أعلن نابليون ـ رسميا ـ عن تأييده لفكرة الكيان؛ الذى يقيمه اليهود في منطقتنا العربية. والحلم الذى سيحققه هذا الكيان للغرب المستعمر؛ وهو التحكم في " تجارة الهند وبلاد العرب وإفريقيا "!.

وفي إطارالأفكار ـ التي أحدثك عنها ـ نمت فكرة الشركات ذات الطابع الدولي. وأصبحت تلك الشركات: إحدى الأدوات الهامة للاستعمار؛ وسعيه لإدامة نفوذه وتعظيم ثرواته. وتقوم هذه الفكرة على شركات تتجاوز إطارها القانوني كمشروع تجارى. وتصبح مؤسسة حاكمة؛ لها أهدافها الاستعمارية في منطقة أو أكثر.

ومن هذه الزاوية: كانت شركة قناة السويس؛ جنبا إلى جنب مع المشروع الصهيوني في فلسطين؛ وبعض النظم الحليفة في منطقتنا العربية: أدوات جديدة للمستعمر. ولذلك كانت إنجلترا تربط بين نفوذها في مصر من جهة؛ ومستقبل القنال من جهة أخرى. لاحظ ـ عزيزي القارئ ـ خطوات المستعمر الإنجليزي: منذ أن سعى إلى شراء أغلب الأسهم؛ في شركة القنال في سنة 1875م. وحين شرع بعدها: في التخطيط والتجهيز لاحتلال مصر. وحين قام بحماية مصالحه في القنال؛ من خلال معاهدة القســـطنطينية ســنة 1888م. وحين أخذ يتفاوض مع المصريين: على شروط الجلاء عن مصر.

واسمح لي أن أنقل إليك ملاحظة هامة؛ تتعلق بالوعى بهذه المسألة؛ وارتباطها بالاستعمار العالمي. ملاحظة
تحملنا على أجنحتها إلى أمريكا الجنوبية:

كتب الروائي المُبدع (جابرييل جارسيا ماركيز) في روايته التي حملت اسم " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه " .. تعليقا على واقعة تأميـم قنـــال السويس في العــام 1956م: " إن الغـــرب يفقــد مواقعـــه ". 

 

broken image

صورة : مدخل قناة السويس ومكتب الشركة في القرن التاسع عشر

 

عزيزي القارئ: كانت الولايات المتحدة الأمريكية ـ في تلك لسنوات ـ تتهيأ لدورها الاستعماري في الشرق؛ بصفتها الوريث للمستعمر البريطاني وعصره الذى كان في طريقه للغروب:

1) كان هذا الوريث الاستعماري: يردد دعوة الاستعمار الخبيثة؛ وهي الحاجة إلىحماية الشرق؛ والدفاع عن الأقليات الدينية ومقدساتها في منطقتنا العربية. ويصح أن نتساءل في مقامنا هذا: هل كان الشرق بحاجة إلى من يستعمرونه وينهبونه؛ أم كان في شوق إلى من يساعدونه ويتعاونون معه؟!.

2) ودافع هذا الوريث الأمريكي عن نظام الحماية الذى فرضه الاستعمار على بلادنا؛ وهي الحماية التي ارتدت ـ كما لاحظنا ثوب " الانتداب ". واعترف الرئيس الأمريكي (جونسون) بحقوق إنجلترا وفرنسا في مستعمراتها العربية.

3) ولم يزل هذا الوريث الأمريكي ـ حتى يومنا هذا ـ يخضع في سياساته لـ "الصهيونية المسيحية ". وهو المذهب الذى يربط بين ظهور السيد المسيح؛ وبين عودة اليهود إلى فلسطين وتمكينهم منها.

كان لدى هذا الوريث الاستعماري الجديد: إرثه من الإجرام. وهو الإرث الذى يتشابه مع جرائم الصهاينة في منطقتنا العربية!. كانوا جميعا من " أرباب السوابق " في " التخلص " من الشعوب وفي " إبادتهم ". جرائم ارتكبها المهاجرون هناك في حق " الهنود الحمر ". وجرائم يرتكبها المهاجرون إلى بلادنا؛ ومازال العرب يدفعون ثمنها حتى يومنا هذا. إليك عزيزي القارئ كلمات (مارك توين): أبو الأدب الأمريكي. ولاحظ كيف يصــف الفلسطينيين في رحلته؛ والتي تضمنها كتابـــه: "أبرياء في الخارج"؛ الذى صدر سنة 1869م:

"جلس هذا الصباح خلال الإفطار التجمعالمُعتاد للبشر القذرين ينتظرون أن يُلقى إليهم الفتات نظرا لبؤسهم، لقد ذكروني بالكثير من الهنود الحمر جلسوا في صمت وصبر لا يكل يراقبون حركاتنا بتلك الوقاحة المقيتة التي هي فعلا من صفات الهنود الحمر والتي تجعل الرجل الأبيض عصبيا وهمجيا يود إبادة القبيلة والحشرات تأكلهم والأوساخ قد غطت أجسادهم".  

broken image

صورة : صورتين تم التقاطهما في بداية القرن العشرين .. بالجانب الأيمن السكان الأصليون لامريكا وبالجانب الأيسر القرية الفلسطينية قديماً

 

وستجد في هذا السفر الموجز: ملاحظات قيِّمة عنحرية الحركة التي تمتعت بها الصهيونية في مصر خلال تلك السنوات. والدعم الذى كانت تتلقاه من شخصيات وهيئات شتى؛ بدءا من الأسرة المالكة؛ مرورا بالنخب السياسية؛ وانتهاءً بالكثير من الأدباء والمفكرين والمثقفين.

وفي هذا الإطار: تناول أستاذنا مسألة العلاقةبين المحافل الماسونية في مصر والحركة الصهيونية. وهي المسألة التي كانت ـ ولم تزل ـ في حاجة إلى المزيد من البحث؛ نظرا للعلاقة بين تلك المحافل؛ وبين بعض قادة الحركة الوطنية المصرية حتى قيام ثورة 1919م.

وكان نصيبنا من الدقة والأناة ـ التي يتمتعبها أستاذنا ـ تلك اللفتة الهامة. ونقصد بها: كيف أنه رصد واحدة من أقدم الحركات المعادية للصهيونية في مصر. وهي الحركة التي قادها نفر من اليهود الشيوعيين في مصر؛ واتخذت اسما لها هو " الرابطة الإسرائيلية لمناهضة الصهيونية "؛ والتي أصدرت بيانها التأسيسيّ في شهر يونيه1947م.

وإليك ـ عزيزي القارئ ـ العبارات التي وثقها أستاذنا المؤلف؛ نقلا عن سكرتير الرابطة (عزرا هراري) في الخامس من مايو سنة 1947م. لا حظ فيها الوعى بمسألة الصهيونية وعلاقتها بالاستعمار:

" أما الصهيونية خادمة الاستعمار فتريد أن تربط اليهود بعجلة الاستعمار وأن تجعلهم عبيداً لتنفيذ مأربه الحقير من خلال سياسة فرق تسد التي تبعها في فلسطين وخلال سياسة انشاء دولة صهيونية في فلسطين، تصبح رأس الرمح الاستعماري ضد شعوب البلاد العربية ". 

 

broken image

صورة : اطفال يهود يرفعون علم الكيان الصهيوني عند وصولهم الى ميناء حيفا بطريق الهجرة الغير شرعية عام 1945

 

وكان من الطبيعي أن يعرُج أستاذنا على الجانبالاقتصادي للظاهرة؛ وما رافقها من الدعاية الإعلامية والأنشطة الخيرية. وذلك حين انبرى يفسر الإزدواجية التي خضعت لها الشخصية اليهودية في مصر خلال تلك السنوات. وكيف كان الكثير من اليهود المصريين: ينازعون إيمانهم بالفكرة الصهيونية ومزاعمها في فلسطين. وحرصهم ـ فى ذات الوقت ـ على مكاسبهم الاقتصادية ومكانتهم الاجتماعية في مصر.

وستجد في هذا السفر فصلا: عن أهم الشخصياتوالعائلات اليهودية؛ ودائرة نفوذها الاجتماعي والسياسي. وستجد ـ أيضا ـ أستاذنا وقد وضع علامة الاستفهام الحاسمة: وهو يشير إلى الجانب المُسلح في الحركة الصهيونية في مصر؛ وإرهابها ضد المصريين ومصالحهم؛ وخطتها في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية واستيطانها...

وستجد أيضا صفحات طوال: قدم أستاذنا فيها ملاحظاته عن الدعم الذى قدمته التنظيمات الماسونية في مصر؛ للصهاينة وحركتهم وأنشطتهم. وعرض فيها تفسيره للغط الذى يتعلق بعلاقة الكثير من رموز الحركة الوطنية
والأدبية والفنية في مصر بالتنظيمات الماسونية. وهي مسألة يحلو للبعض فيها أن يهاجم بعض الزعماء السياسيين والمفكرين والفنانين؛ أمثال: جمال الدين الأفغاني وعبد الله النديم ومحمد فريد ومحمد عبده وسعد زغلول ومحمود المليجى وآخرين...

وهنا لاحظ أستاذنا تأثير السمعة الطيبة للتنظيمات الماسونية. وهي السمعة التي نشأت ـ بالأساس ـ بسبب تبنيها شعار الثورة الفرنسية بخصوص " الحرية والإخاء والمساواة ". ولقد تكشف زيف الدعاية، التى اعتمدت عليها تلك التنظيمات بعد سنوات. حينما حاول نفر من الزعماء المصريين الحصول على تأييد التنظيمات الماسونية؛ في نضالهم ضد الظلم والاحتلال الأجنبي.

وقد احتاج الأمر سنوات أخرى: حتى صدر القرار بإلغاء كافة الجمعيات الماسونية في مصر سنة 1964م. لقد تراكمت عناصر الشك والريبة؛ بسبب إصرار تلك التنظيمات على الطابع السرى في أهدافها وهياكلها... وتحول الحديث ـ الخافت ـ عن علاقتها بالحركة الصهيونية: إلى اتهامات صريحة واضحة. في الوقت الذى تبددت فيه الشكوك حول أطماع الكيان الصهيوني وحلفه الاستعماري؛ في بلادنا العربية وثرواتها وخيراتها وأسواقها...

broken image

صورة : صورة التقطت في اربعينيات القرن الماضي للجمعية الماسونية في مصر تحت علم الملك فاروق

 

ومع ذلك سيبقى السؤال: عن الوعى المُتأخر بين المصريين بالصهيونية وخطورتها في تلك السنوات. ونقصد بها السنوات التي تناولها أستاذنا بالدراسة والتحليل: من1897م إلى 1948م. وقد يقول قائل: إن الأمر كان قد ارتبط بالعهد الذى لم يكن أمر المصريين فيه بأيديهم. بالنظرإلى خضوعهم فىتلك العهود للمُحتل الإنجليزي؛ وهو الراعى الرسمى للمشروع الصهيونى فى تلكالفترة. وبجانب ذلك الحلفالاستعماري: كان هناك تحالف آخريقوده ملوك مصر وأعوانهم. وأغلب هؤلاء كانت قد ارتبطت مصالحهم الاقتصادية والسياسية بالغرب الأوروبي عامةً؛ وبالاحتلال الإنجليزيعلى وجه الخصوص.

وينبغى أن نقرأ الملحوظة السابقة على ضوء الوجود الاجتماعى والنفوذ الاقتصادى لليهود فى مصر فى تلك الفترة. كانت أغلبية اليهود من أصول أجنبية؛ وهؤلاء كانوا يمثلون نسبة (82%) من إجمالى اليهود المقيمين فى مصر؛ طبقا لإحصائية أُجريت فى العام 1947م. وهؤلاء كانوا عصب الرأسمالية اليهودية فى مصر؛ وكانوا يتحكمون فى نسبة (95%) من الشركات المصرية؛ منذ النصف الثانى من القرن الـ19.

وهنا يجب أن نستشـهد بملحوظة دقيقة ساقتها أستاذتنا د. (عواطف عبد الرحمن) عندما لاحظت العلاقة المبكرة بين الحركة الصهيونية والنظم المُستبدة فى منطقتنا العربية. وكشفت فى الواقع عن العلاقات والمصالح الاقتصادية؛ التى ربطت بين الصهيونية، ونفر من قادة العمل السياسى والتنفيذى فى مصر. وأغلبهم ممن كانوا ينتمون لأحزاب الأقلية؛ ويتخذون من حزب الوفد عدوا. ومع ذلك يجب الإقرار بأن حزب الوفد كان قد انسلخ عن تلك المواقف الداعمة للصهيونية؛ ثم جهر بدعمه للحق الفلسطينى؛ والتنبيه على علاقة الصهيونية بالمشروع الاستعمارى فى مصر وبلادنا العربية. ويمكننا أن نؤرخ لهذا التوجه الصريح منذ أواخر العشرينيات من القرن العشرين. وإليك عبارة الزعيم (مصطفى النحاس) زعيم الوفد ورئيس الحكومة المصرية فى العام 1937م:

" لا أستطيع أن أحس بالإطمئنان وأنا أفكر في قيام دولة يهودية على حدود مصر ـ إذ ما الذى يمنع من أن تدعى تلك الدولة حقا لها في سيناء فيما بعد " .

broken image

صورة : النحاس باشا اثناء وصوله الى القدس عام 1943

 

وقد يُقال ـ أيضا: إن تلك السنوات كانت تشهدظاهرة أخرى؛ ونقصد بها انتشار ـ بل وازدهار مبدأ القوميات في بقاع شتى؛ وبين كثير من الأمم. وفيها كانت القومية والليبرالية المصرية: تخطو خطواتها المُبكرة. وفي هذا الإطار: قد يجد البعض تفسيرا؛ لذلك التعاطف الذى وجدته الصهيونية ـ ومزاعمها القومية ـ بين قادة الحركة الليبرالية ودعاة القومية المصرية. ولقد انعكست تلك الليبرالية على دستور الثورة؛ ونقصد بها ثورة 1919؛ عندما تبنى مبدأ الحريات الدينية وحرية التعبير عن الرأى.

وثمة زاوية أخرى لذلك الإطار الفكرى والقانونى؛ أشرنا إليه فى هذا الموضع.وهو أن مصر كانت تشهد ـ أيضا ـ تيارا فكريا مؤثرا؛ يتحلق أنصاره حول نبذ فكرة العروبة. ويتخذون من القومية المصرية درعا؛ ويتطلعون إلى شعوب البحر المتوسط وحضاراتهم.

وسواء صح هذا التفسير أو ذاك: فإن الأمر سيبقى محل اجتهاد وموضع تفسيرواختلاف. وستبقى مصر وفلسطين: حارة متصلة. يبدأ أولها وينتهى فى عنوان واحد، ومستقبل مفتوح بالأمل والإشراق. وذلك لمن كان شعاره وعمله ـ ولم يزل: " قـــــاوم"!.