إن التناقضات القائمة بين مصالح الغالبية من الشعوب وبين حقوق الملكية الفكرية للشركات الكبيرة مسألة لا تخضع للنقاش علي أي نطاق في الوطني العربي بشكل خاص ولا تثير التساؤلات رغم خطورتها, ,وكمثال خلال المشروع القومي لعلاج مرضي فيروس سي المعروف إسعلاميا بمبادرة 100مليون صحة, اشترت الحكومة المصرية حق انتاج الدواء لبعض الوكلاء المحليين بالاتفاق مع مالك البراءة الأمريكي رغم عدم تسجيل المستحضر في مصر ذلك الوقت وإمكانية استفادتها من الاستثناءات الشحيحية في اتفاقيات الملكية الفكرية واتفاقية الجوانب, تريبس, ومقدرتها في النهاية علي تخفيض الكلفة النهائية للفرد إلي 84دولارا لمقرر العلاج لاثني عشر أسبوعا (1)لقد تم ذلك التخفيض عبر ترضية مذعنة للطرف الحائز للملكية الفكرية رغم وجود حق واضح لمصر في الاستثناء كونها مدرجة في بيانات الأمم الماحدة والبنك الدولي كدولةذات دخل منخفض. وفوق ذلك فإن تخفيض ال99% حيث قيم المقرر العلاجي للحكومة ب 840دولارا بحيث تتكفل هي بتعويض الوكلاء المحليين الحاصلين علي رخصة التصنيع المحلي حتي يصل الدواء إلي المواطن بالسعر المنخفض ليس انتصارا تفاوضيا أو نجاحا تجاريا علي الإطلاق فسياسة التسعير حسب السوق معروفة ومنتشرة بين منتجي السلع عالية التكنولوجيا منذ سنوات بعيدة, وتعرف بتقسيم السوق العالمي إلي وحدات منفصلة وتسود بين الشركات ذات الطابع الاحتكاري في مجال التكنولوجيا الرقيقية كمايكروسوفت اللتي تستطيع تقسيم السوق عبر التحكم في تفعيل منتجاتها عبر إجبار المشتري علي إجراء التفعيل داخل نطاق جغرافي محددوإلغاء هذا التفعيل في حال جرت محاولة التنشيط من خارج النطاق الجغرافي المعني. تقوم شركات الدواء بنفس الأمر من خلال براءات الاختراع المحلية اللتي تحصل عليها من خلال نظام التسجيل في كل بلد أو مجموعة بلدان علي معا وهو الأمر اللذي قامت به جلعاد منتجة سوبوسبوفير (السوفالدي) في أوروبا حيث أجبرت أسبانيا اللتي يعاني 3% من سكانها من المرض وقد أصبحت في موقف ضعيف أمام القوة الاحتكارية للشركة بسبب حصول الأخيرة علي براءة من خلال منظمة الدواء الأوروبية (EMA) (2)
ضعف الحكومات إزاء رأس المال
إن تسعير مقرر الدواء عند سقف 84ألف دولار داخل الولايات المتحدة واعتباره عتبة التفاوض الأولي علي مستوي الكوكب هو أمر معيب في منظومة الدواء العالمية وفي الاتفاقات ويعكس حجم القسوة واللاإنسانية اللذي تتمتع به الشركات الكبيرة المحتكرة لتكنولوجيا إنتاج الأدوية.إن القول بإن الشركة قد منحت مصر تخفيضا بقيمة 99% ليصبح 840دولارا هو محض تدليس لأن الرقم 84ألف دولار حتي داخل الولايات المتحدة سعر مبالغ فيه و قد قيمت الهند سعر المقرر من سوفالدي بين 64و 130دولارا ولذلك فقد رفضت تسجيل الدواء داخل الهند في البداية حتي لا تمكن للشركة من تحقيق وضع الاحتكار و كان دفاعها في الحقيقة منطقيا (3)لقد دفعت الهند بالقول إن سوبوسبوفير ينتمي إلي طائفة الريبافيرينات وأنه ينتمي الي التكنولوجيا القديمة ذاتها وبالتالي فادعاء الشركة بأنها أنفقت مئات الملايين من الدولارات علي تطويره هو كذب وإن الدراسات الاكلينية علي المستحضر لم تكن لتستغرق أكثر من مرحلة واحدة أو اثنتين من المراحل الخمس بسبب أن المركب قديم وخصائصه وسماته الفارماكولوجية جميعها متوقعة ويمكن إيجادها في أدبيات الدواء. المحبط في هذا الأمر هو استسلام الهند للضغوط الأمريكية وقبولها في نهاية الأمر بتسجيل براءة السوفالدي داخل الهند وتوقيع عقد ترخيص مع الشركة الأمريكية عند سعر 900(لاحظ ارتفاعه قليلا عن السعر المقرر لمصر)دولار للمقرر الدوائي بنفس نسبة التخفيض تقريبا التي قررتها جلعاد من طرف واحد لمصر وهو أقل قليلا من 99% من السعر داخل الولايات المتحدة, رغم كل الصخب اللذي اثارته الهند والإعجاب اللذي حصدته بسبب موقفها القوي من الاحتكار في البداية وما بدا كبشارات ثورة دولية قد تقود إلي تعديل الاتفاقات الدولية في مجال البراءات الصحية لصالح الدول الفقيرة(4).لقد سبقووضعت أسبانيا في موقف صعب علي مستوي التشريعات الدولية لأنها دولة ذات دخل مرتفع وكانت مجبرة علي الوصول إلي تفاهم تجاري مع مالك البراءة حول التخفيض الممكن, السؤال هو لماذا قبلت كل من مصروالهند بعدم اللجوء إلي الاستثناءات المنصوص عليها مثلما فعلت الهند مع أدوية من قبل مثلما حدث مع فايزر في أزمة دواء الإيدز, وليس سوفالدي فقط وانتهت إلي القبول بتخفيض جلعاد اللذي نزل بسعر حبة الدواء من ألف دولار في السوق الأمريكي إلي عشرة دولارات للحبة الواحدة (في مقرر علاجي من 84حبة) في السوق الفقيرة؟ وتثبيت النسبة في كل أسواق الدول منخفضة الدخل يؤكد إنه تسعير الشركة وليس نتيجة جهد أو نجاح تفاوضي للحكومات مثلما حاولت حكومة مصر الترويج لذلك المعني إعلاميا.
من المهم في نهاية هذا الجزء من المقال أن نشير إلي التحقيق اللذي أجرته اللجنة المالية للكونجرس الأمريكي, برئاسة السيناتور وايدن جريسلي حول تسعير جلعاد لسوبوسبوفير عند هذا الرقم المخيف ويشير التقرير المنشور علي موقع اللجنة(5)بأن جميع المقابلات والتقارير والأوراق اللتي فحصتها لا تبرر الثمن اللذي حددته جلعاد لسعر الجملة (لاحظ أن الرقم اللذي نتحدث عنه حتي الأن هو سعر الجملة فقط) وأن هذا الرقم يضمن أرباحا تماثل أضعاف ما يمكن أن تكون قد تكلفته الشركة في طريق إنتاج الدواء.و يشير التقرير ذاته أن ما فعلته جلعاد أدي إلي ظهور مستحضر هارفوني بسعر 94500دولار للمقرر العلاجي الواحد(لاحظ أن بعض المرضي قد يحتاجون إلي تكرار المقرر العلاجي أو تمديده) وفيما تعاني الولايات المتحدة (اللتي يصرخ أعضاء الكونجرس فيها من كلفة علاج مرضي فيروس سي وفق تسعير جلعاد الخرافي) من عبيئ محدود للمرض لا يتجاوز 300ألف مريض فإن بلدان العالم النامي والفقير لديها مخزون بشري للمرض بمئات الملايين فيقدر أن لدي الصين 3% من السكان مصابون بالمرض ما يعني قرابة 40مليون مريضاومن السعر اللذي حققته جلعاد في الصين ويبلغ 8939دولارا للمقرر العلاجي لثلاثة أشهر(6) هذه الأرقام تكشف كيف تقسم الشركات الدوائية الكبري السوق العالمية حسب إمكانات الدول و مستوي الدخل الفردي والدخل القومي وغيرها من العوامل, وهو ما يعود بنا مرة أخري إلي الضجة الإعلامية اللتي صاحبت اتفاق حكومة مصر وجلعاد وكيف أن الاتفاق كان نوعا من الإملاء اللذي رسمته دائرة البحوث والدراسات السوقية لدي الشركة وليس بسبب مواقف الحكومات اللتي تحولت إلي مفاوض وسيط بينها وبين الشعب أكثر منها طرفا في صراع الشد والجذب ولا كطرف تجمعه بمالك البراءة تناقضات المصالح (2).
حتمية تصنيع الدواء: 1- الوطن العربي كميدان لضرب النار
لماذا يجب أن نركز علي صناعة الدواء العربية؟ لأان الأمر بالنسبة لنا أعقد من أزمة استغلال رأس المال الدوائي العالمي لحكوماتنا ولأمراضنا وإثرائه علي حسابنا دون مبرر, هذا هو الوضع عالميا وعلي بشاعته إلا أن الأزمة بالنسبة للوطن العربي مركبة مع الاستقصاد الغربي لشعوبنا ودولنا بالإضعاف والإنهاك المستمرين عبر إدامة التدمير علي كل المستويات, يعني لأن تجاربنا منذ منتصف القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين تقول إننا أهم بؤرة استنزاف بشري تركز عليها الإمبريالية الغربية جهودها التدميرية
هل يمكن أن ننسي حصار العراق لثلاثة عشر عاما (1991-2004) حصارا شاملا مميتا برا وبحرا وجوا؟ وهل ننسي الغزو الهمجي له وتدمير بنيته التحتية وتدمير مؤسساته التعليمية والخدمية وقاعدته الإنتاجية منذ عام 2003؟
كثيرا ما استخدمت الإمبريالية الغربية سلاح الحصار لإخضاع الأمم والشعوب والأنظمة غير المطيعة لمطلوبات استرقاقها في منظومة نهبوية تنزح من الشعوب لتصب في شرايين الاقتصاد الرأسمالي الغربي, و لقد كان الحرمان من الدواء أهم أدوات ذلك الحصار, لا ينتبه الناس عادة لحجم وخطورة أمر كهذا, إن اعتياد المرء رؤوية أرفف الصيدليات العامرة بشتي صنوف الأدوية يجعل تصور إمكانية حدوث شح دوائي بالحصار الدولي مسألة مستبعدة أو خارج التصور,ولقد أجرم الإعلام العربي بتجاهل أثار الحصار الدوائي ضد العراق والممارس ضد سوريا حاليا, وتجاوزه ببضع كلمات من حين لأخر وكأنه مجرد تعقيد بسيط علي جانبي أزمة سياسية. ولقد تمكنت الإمبريالية من تثبيت النمو السكاني للشعب العراقي من خلال تصعيب الوصول إلي الدواء, فإذا كان تزايد متوسطات أعمار البشر في العقود الأخيرة إنما يرجع إلي إتاحية الوصول إلي الدواء في الأساس, فإن الحرمان من الأدوية يرفع معدلات الوفاة ويقصر بالضرورة متوسطات أعمار البشر, العراق تحت الحصار نموذجا, عند الحديث عن وفيات الأمهات لكل مئة ألف ولادة فقد تضاعف هذا العدد من 117عام 1990إلي 297عام 1999بسبب الحصار الشامل وتقص الإمدادات الطبية والأدوية (7, 8) هذا بخلاف القتل المباشر والوفيات نتيجة انفجار عبوات متفجرة من مخلفات الحروب الطائفية اللتي فجرها الغزو والاحتلال الأمريكيين للعراق قدرته اليونيسيف ب 519طفلا بين قتيل و معاق نتيجة التعرض لانفجار تلك العبوات بموجب تقرير مشترك مع الأونماس عام 2022عن السنوات الخمس الماضية (9)
. يبين الرسم التالي معدلات الزيادة السكانية للعراق بين عامي 1961و2021ورغم وجود ارتفاعات وانخفاضات كثير عبر المنحني إلا أن الملاحظ أن أقل معدلات النمو السكاني تحققت تحت الاحتلال الأمريكي للعراق, يبين الشكل إن معدل النمو عام 1961كان 2.5% وصل إلي أعلي قيمة بين عامي 1968و1969بمعدل 4.3% ثم بدأ تنازله حتي أدني مستوي عند 2.2 % بين عامي 1986و1988إلا أن هذا الانخفاض تميز بالنحدار الغير الحاد وتخلله بفترات تضاؤل في التذبذب للمعدل بين 1970و 1980, ويميل المعدل للانخفاض مرة أخري بين 1976و 1986بانحدار بمقدار 1.1%إلا أن الانحدار القوي يلحظ عقب الغزو الأمريكي حيث بلغ الانحدار 1.2 % خلال أربع سنوات فقط بين 2003و2007ليصل إلي 1.7 % وهو أدني معدل نمو سكاني عرفه العراق منذ استقلاله وحتي اليوم (10)
إن الشكل يبين منطقة تزايد في معدل النمو السكاني بين نوات 1990و 2000 بعد فترة تناقص بسبب سنوات الحرب بين إيران والعراق وهو أمر طبيعي في أعقاب الحروب إلا أن هذا المعدل لا يتناسب مع حالة تعافي من أثر الحرب بالكامل بسبب أن الحصار استطاع تحجيم ذلك النمو ببتسببه في ارتفاع معدلات وفيات الأطفال والأمهات بفارق ملحوظ لا يمكنن تفسيره سوي بأثر الحصار الدوائي بالذات علي معدلات بقيا الأطفال والأمهات وهو ما تجلي خلال الفترة اللتي أعقبت الغزو الأمريكي حيث وصل انحدار مستوي النمو السكاني لأقل معدل في الخمسين سنة الماضية. وهذا يعني إن النظام العراقي اللذي ينحي عليه باللائمة اليوم عمل بأقصي جهد علي إتاحة الدواء والعلاج للسكان وتقدر أرقام المؤسسات الدولية وصول الخدمات العلاجية في فترة ماقبل الغزو ومنذ الستينيات إلي 78% من الريف وأكثر من 97% من المناطق الحضرية وهو الأمر المفتقد في العراق تحت الاحتلال الأمريكي, بإقرار لجنة السياسات السكانية السابق, الاحتلال الأمريكي يواصل الضغط لتقليص خدمات الدولة الصحية عبر خصخصة القطاعات الطبية وإهمال المشافي العامة وتحرير الأسعارفضلا عن تجنب توطين صناعة الدواء داخليا وتأبيد الاعتمادية علي الاستيراد من أجل الحد دون وصول معدلات النمو السكاني إلي طبيعتها. الملاحظة الأخيرة علي الخط البياني تبين, من أجل فهم الفقرة الأخيرة, بوضوح وجود حالتي تغير حادة في الهبوط والصعود كلتاهما تحت الغزو والوجد العسكري الأمريكي بالعراق وهو ما يعكس تذبذبات غير طبيعية في ديناميكية المجتمع السكانية مع مرور عشرين عاما تقريبا علي الغزو الأمريكي والهيمنة الامريكية علي مقدرات العراق عبر العملية السياسية والدستور والترتيبات السياسية اللتي تشرف علي استمرارها فيه. إن العراق حالة نموذجية لاستهداف إمبريالي لشعب لا لشيء إلا لحرمانه دون الوصول إلي دينامية سكانية طبيعية ضاغطة تتيح له استغلال ثرواته وتصنيعها, مرة أخري, إن ما تعمل أمريكا عليه في العراق هو الحيولة دون انفجار سكاني يفرض عملية تصنيع وتدوير للموارد الطبيعية داخليا عوضا عن الدفع بها إلي السوق العالميية وللحيلولة دون تطور أوضاع هذا البلد وأيضا لجعله عبرة كونه بقي رافضا القبول بالتحرير الاقتصادي وتعشيق ماكينة اقتصاده داخل ألة النزح الرأسمالية العالمية
وللحديث بقية
1) Glob Health Sci Pract. 2021 Mar 31; 9(1): 187–200 Egypt's Ambitious Strategy to Eliminate . Hepatitis C Virus: A Case Study. Ahmed Hassanin, Serageldin Kamel, Imam Waked, and Meredith Fort
2) The Relationship between the Spanish Government and the Pharmaceutical Company (Gilead)Alonso García, S. (2020). The Relationship between the Spanish Government and the Pharmaceutical Company (Gilead) during the Hepatitis C crisis in Spain. Politikon: The IAPSS Journal of Political Science, 45, 90–98. https://doi.org/10.22151/politikon.45.5
3) https://www.pmlive.com/pharma_news/india_turns_down_patent_on_gileads_
sovaldi_631516
4) من موقع فيرس فارماhttps://www.fiercepharma.com/pharma/gilead-sciences-prices-sovaldi-india-at-a-tiny-fraction-of-u-s-cost
5) https://www.finance.senate.gov/ranking-members-news/wyden-grassley-sovaldi-investigation-finds-revenue-driven-pricing-strategy-behind-84-000-hepatitis-drug
6)
7) تقرير اللجنة الوطنيةللسياسات السكانية,تحليل الوضع السكاني في العراق. بدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان. يونيو 2012
8) تقرير قناة الجزيرة حول تأثير الحصار علي العراق 2004
https://www.aljazeera.net/2004/10/03/%D8%A2%D8%ABD8%A7%D8%B1%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B5%D8%A7%D8%B1%D8%B9%D9%84%D9%89- %D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82
9)تقرير اليونيسيف الأونماس المشترك 2022https://www.unicef.org/iraq/press-releases/unicef-and-unmas-press-release
10) إحصاء البنك الدولي للنمو السكاني العالمي- العراق https://data.albankaldaw-li.org/indicator/SP.POP.GROW?locations=IQ