في مواجهة المثقف الأدباتي 

د. موفق محادين 

 

broken image

 

 

الثقافة والسياسة 

ينقسم الذين يدعون لفصل الثقافة عن السياسة إلى فريقين: الأول، فريق حكومي من جماعة المهنة الذي يريد إخراج المثقفين من ميدان الصراع السياسي بما يضمن سيطرته على الخطاب السائد.. والثاني فريق من اليساريين السابقين التواقين للاعتراف الحكومي بهم بعد طول انتظار..

والذين يدركون أن فصل السياسة عن الثقافة هو الذي يسمح لهم بما تيسر من الجوائز الحكومية التشجيعية، والمفارقة بين هؤلاء وأولئك أن الفريق الحكومي أكثر انسجاما وبالتالي احتراما لنفسه ومصالحه من الفريق اليساري السابق ورائحته الانتهازية التي تزكم الأنوف.

وقد برهن هؤلاء على فهلوة وشطارة سوقية في الترويج لبضاعتهم المغشوشة قياسا بالبؤس الثقافي عند اليمين الذي لم يصمد أمام هؤلاء الذين لا يعرفون في الواقع أكثر من العناوين والهوامش والإنتحالات.

المهم أنهم يدعون مع جماعة المهننة الحكومية إلى فصل الثقافة عن السياسة، فلا يحق لكاتب أو هيئة ثقافية أن تقتحم الميدان السياسي من موقع نقابي أو شخصي بل من موقع حزبي او حكومي.. فها هم يشجعون على قيام الأحزاب إذا.

أولا: الثقافة كما السياسة ليست معطى ثابتا ولا تتشكل خارجالحياة وقوانين الصراع وحسب كل المدارس والتيارات فالعلاقة بين الثقافة والسياسة،علاقة حاسمة، هي علاقة جدلية، الأفكار والتعيينات، الفلسفات والتاريخ.. وهكذا

ثانيا: كل التغيرات والتحولات السياسية تبدأ بجدل ثقافيوتتواصل بسببه في اتجاهات مختلفة تحددها قوى الصراع في كل مرة. من الإغريق والمسيح (في البدء كانت أو كان الكلمة) إلى الرسول الأعظم ورسالة الإسلام (اقرأ) إلى الثورات الكبرى وخاصة الفرنسية (روسو، فولتير، مونتيسكيو) والروسية (لينبن) ويعرف المتثاقفون اليساريون أن كل التحولات التي طرأت على الرأسمالية نفسها، بدأت بمدارس ثقافية، الوجودية ثم البنيوية ثم التفكيكية، أيديولوجيا الإمبريالية المعاصرة.

ثالثا: في كتاب "من يدفع للزمار" الذي فضح دورالمخابرات الأمريكية في اختراق المثقفين اليساريين، فإن النصيحة الثابتة لأصدقاء هذه المخابرات، هي فصل الثقافة عن السياسة.

رابعا، إذ سلمنا بأن ثمة معايير عامة لرؤية أي واقع ثقافي،فهي بالتأكيد المعايير الفنية والجمالية، وعلى اعتبار أن العمل الإبداعي بذاته يعبر عن نفسه وبالضرورة كحامل لقيم الحق والجمال.

هذا، في الإطارالعام، أما في الإطار الخاص، فإن العمل الإبداعي يعكس كليته وكماله من خلال التعبير عن الروح الخاصة للأمة والتعرف عليها، بالحفر والقراءة والإزاحة وإعادة الإنتاج في كل مرة.

ليس ثمة ثقافة وأدب بدون ذاكرة حميمة، بدون جماليات مكان محددة، كما رسمها باشلار وتعرفنا عليها عند غالب هلسا في الأم الملتبسة ومناخات بلدته ماعين وكبريت سدوم الذي يذكر أيضا بالتحليل النفسي للنار.. وخصوصا في السؤال والتماهي المفارق، في الوقت عينه، بين الخاص والعام. وكيف تجعل من قريتك قرية ماركيز، وكيف ينبض ماؤك في ماء العالم الذي لا يجري مرتين، وتكتشف أن غريب كامو كما غريب تيسير السبول، وأن غجر لوركا وغوركي كما الهبر وسلمى عند عرار، وأن أجراس اسبانيا كما أجراس المكسيك، كما همنغواي وصاحب المدرعة بوتمكين وكما الحرب في الأوراس وحي كريتر ودير البلح.

والمشكلة في الحالة العربية، أن ما يحدث غالبا ليس افتراقا عن النص العام وليس امتزاجا به كامتزاج الماء باللبن.. بل انتهاكا له من زاوية الافتراق أو التماهي على حد سواء..

فمع فساد الدورة الدموية والأرض اليباب، وأرخبيل الجولاج خاصتنا ومع القتل اليومي وتكاثر الناس في مزرعة جورج اوريل والإسبست الممتاز في الدولة البوليسية.. والموت المفتوح لسانتياغو نصار في عز الظهر، وللعوّام كانكان مرتين، غالبا ما يكتب الكتاب في بيت من زجاج.

تجريدات مفتعلة بائسة وركض يقطع النفس وراء لغة شاحبة، بدون أسنان ومخيال معطوب، لا لون ولا طعم ولا رائحة.. هكذا المنبت لا أرضا قطع ولا صعد إلى رابية قس بن ساعده، ولا أضاف، وسط ركام الكلام والفوضى المنتحلة.

وحيث يعتقد معظمهم أنهم يفعلون ما يفعلون من اقتراف الشعر والقصة والرواية والنص الحر، انطلاقا من مواهب خلاقة موصولة بالأسلاف والطين الأول وتجليات العناية الإلهية وربات الشعر.. ليسوا في الواقع الأعم، أكثر من ضحايا البنية الناقصة ومكابدات الطفولة في الحارات والأنا المهروسة بالذكريات التي لا تسر الخاطر وتتداعى على شكل أحلام يقظة مريضة، تتسلل إلى حبر المطابع كيفما اتفق..

هناك ما يقال عن تقسيم العمل في المجتمعات شبه الرأسمالية ودوره في إحالة ركام الوعي البائس للطبقة الوسطى إلى المثقفين العجولين كامتياز من الدرجة العاشرة. يمكن تأجيره للأنظمة التي لا يقل انحطاطها وفقرها المعرفي عن هذه البضاعة، وكم يسعدنا ذلك كما ترون في دوائرها الحكومية والبلدية الكبرى.

وتتفاقم هذه الإشكالية مرتين: مرة بسبب انهيار النموذج لهذه الطبقة وهو دولة الجغرافيا السياسية البيروقراطية مع انهيار نموذجها الكوني الروسي وظلاله العربية، وانهيار ثقافتهما الريعية بالمحصلة. ومرة لأن البنية الاجتماعية الناقصة في دول الهرم المقلوب، والصهيونيات القطرية العربية، التي تنبت كالطحالب على ضفاف كريات أربع.. لا تساعد أحدا على توفير بدائل رفيعة، وبالأخص في الحقل المعرفي والإبداعي، وتدفع الأبناء الشرعيين للثقافة الريعية إلى خيارات أخرى.