الإمبريالية تعلن موت الإنسان 

د.موفق محادين

 

broken image

 

 

عندما يتحدث الإمبرياليون عن الإنسان الجديد، أو ما بعد الإنسان أو الإنسان القادم، فإنهم ينتسبون عمليا إلى قاموس النهايات، الذي اخترعوه بالتزامن مع الانهيار السوفياتي، وشمل عندهم نهاية الإيديولوجيا ونهاية التاريخ وهكذا، وبالتالي فلنا أن نقول على لسانهم أن إعلانهم عن الإنسان الجديد هو قناع للإعلان عن موت الإنسان بحسب لغتهم وقاموسهم، والحق أن السياق الموضوعي للرأسمالية وتحولاتها شديد الصلة بذلك وضروري للتعرف على حالات الإنسان ضمن هذا السياق.

في مرحلة ما بعد الرأسمالية الصناعية والمجتمع الصناعي والتأثيرات الكبيرة للثورة الرابعة أو المعلوماتية، ثمة تحولات كبرى في التركيب العضوي لرأس المال وفي علاقات الإنتاج الجديدة وتداعياتها الاجتماعية والثقافية، من ذلك ضرب السرديات الكبرى للمرحلة السابقة كما أسستها دولة وستفاليا التي ولدت من عباءة الثورة البرجوازية.

فالعقد الاجتماعي الذي انطلق من أفكار لوك وهوبز وميلومونتسكيو يعاني من تصدع واضح بين خطابه القديم وبين نمط الإنتاج الجديد مما يفسر التحول من الليبرالية الكلاسيكية الى الليبراليةالمتوحشة وصعود الأكثر تطرفا في الوسط اليميني بل ان (الحمامة) بوريل الممثل السياسي لللاتحاد الأوروبي لم يتردد في تقسيم العالم بين حديقة أوروبية – أمريكية وغابات من البرابرة، ناهيك بصقور المالثوسية -الداروينية الاجتماعية الجديدة.

والملاحظ كذلك أن التحولات الموضوعية المذكورة لا تخلو أبدا من حضور فعال للمؤامرة وفق مقاربات هيجل (التاريخ ليس مؤامرة ولكن المؤامرة في قلب التاريخ) وهو التعبير الذي وجد تكثيفا له في رواية ايكو (ربيع براغ) التي لخصت أكثر من مئة عام من التحولات والدسائس والعائلات المتسلسلة النافذة مثل روتشيلد.

إلى ذلك، وفيما يخص موت الإنسان، يريده الإمبرياليون على هواهم وعلى الصعيدين الفردي والاجتماعي:

أولا: موت الإنسان الفرد في العقل الإمبريالي، وهو ما يعبر عنه في مجموعة المظاهر التالية:

1. الإنسان الرقمي وفق ما كشفته الباحثة الأسترالية روزي بريدوتي في كتابها الصادر حديثا عن عالم المعرفة تحت عنوان (ما بعد الإنسان) فهو خليط من مقاربة حيوية بيولوجية ذاتية التنظيم، ومن المثليه وهندسة الجينات وهندسة الدماغ.

فنجد أنفسنا أمام صورة أكثر خطورة من فرانكشتاين (رواية ماري شلي) ومن مظاهر ذلك في الأدب والسينما:

- في الأدب: روايتان من عالم الانجلوسكون قدمتا نبؤات مبكرة لذلك، فبحسب هكسلي في (العالم الطريف) فالإنسان القادم هو ابن العقاقير والقوارير، بحيث يكون الانجاب في الفقاسات مثل الدجاج الأبيض اللاحم، الرحم المعد للأكل وليس للبيض وبوسع الراغبين في مشاعر الحب وغيرها أن يتناولونها من الصيدليات.

وبحسب جورج اورويل في روايته عام 1984 فهو ينتقل من إدانة عالم أوروبا الشرقية في روايته السابقة (مزرعة الحيوانات) إلى إدانة العالم الغربي هذه المرة من خلال مزرعة مشابهة ولكن الكترونية، كما ينتقل من الحديث عن القمع المرئي السابق في دول (الستار الحديدي) الشرقية وفق رأيه إلى الحديث عن القمع غير المرئي في عالم الحداثة وما بعد الحداثه الغربي الرأسمالي، وبما يذكرنا بفكرة الفيسلوف فوكو عن العلاقه غير المرئية للتجليات المختلفة للسلطة.

في السينما، ثمة أفلام من إنتاج هوليوود تدين كلها التوحش الرأسمالي ضد الإنسان ومنها: المانح – حالة توازن – المأخوذة عن رواية
ادغار الان بو المتهم هو نفسه بالجنون.

2. الاغتراب الرقمي كطبعة جديد تلائم الحقبة الامبريالية مقابل الاغتراب السلعي في الحقبة الرأسمالية الصناعية والاغتراب الانثروبولوجي في الحقبة ما قبل الرأسمالية.

3. الاغتراب الجسدي ممثلا بالمجتمع المثلي وبفصل الجسد عن سيكولوجيا الأعماق السيكولوجية والروحية.

4. النيكروفيليا الجديده وهي اشتهاء الأموات واستبدال الأسلاف بالآلات.

5. الفرد الذي لم يعد إنسانا، بتحويله الى متفرج متلقي سلبي أو فرجة على غرار رواية هوراس ماكوي (إنهم يقتلون الجياد) التى حولها المخر سدني بولاك إلى فيلم من بطولة جين فوندا.

6. تحويل الفرد إلى فأر مختبرات في كل الحقول البيولوجية والسياسية والايديولوجية والاجتماعية ومن ذلك ما ذكره ديفيد ايكه في كتابه (السر الأكبر) حول مختبرات على الأطفال بإشراف كيسنجر وديك تشيني الذي ورط العراق في الحرب مع إيران لاستنزاف البلدين في احتواء مزدوج تدميري وعندما قام المخرج الامريكي بولانسكي بفضح هذه المختبرات في أكثر من فيلم هاجم (مجهولون حتى الآن) زوجته الممثلة شارون تيت وقطعوها بالسكاكين.

ثانيا: موت الإنسان الاجتماعي:

1. استبدال التواصل الإجتماعي بالتواصل الرقمي، وسبق الفيلسوف الامريكي هابرماس أن أولى أهمية كبرى لذلك في سياق الأفكار المناهضة للرأسمالية وعقلها التقني الأدائي.

2. استبدال المجتمع الطبيعي بمجتمع الميم (المثلي) وهو جزء من حرب الإبادة المالثوسية وصولا إلى طبعة جديدة من مجتمعات السيد والعبد باسم المليار الذهبي.

3. استبدال العقل الاجتماعي بالعقل المتشظي الأداتي، وثمة ما يلاحظ كذلك في التداعيات التي تطلقها التفكيكية وهي تهدم كل السرديات الكبرى لعالم الحداثة السابق.

4. استبدال العمل الاجتماعي المعروف لقوة العمل وفائض القيمة بما هو أسوا من اقتراحات تايلور لتكثيف الحركات اليدوية ومضاعفتها كما لاحظ الفنان شارلي شابلين في فيلم الازمنة الحديثة.

ما العمل: مقابل ما سبق فمن المؤكد أن البشر حتى يحافظوا على إنسانيتهم ليس عليهماستعادة زمن محطمي الالات في الثورة الصناعية الأولى ومقاطعة التكنولوجيا الرقمية في الزمن الحالي بل توظيف هذه التكنولوجيا بما لا يسمح لها باستلابهم وإلحاقهم بها.

ومن المؤكد أيضا ان المزيد من العلموية والمادية الموضعية بحجة قرع أجراس العصر لا يزيد الإنسان إلا تهميشا واغترابا عن نفسه، ومثل ذلك مقاربة النظريات التقدمية كنظريات اقتصادية من أجل العدالة الاجتماعية، فالاقتصادية كما العلموية في صميم هذا الخطر بمعزل عن الأخلاق وفلسفة الجدل والتوقف دوما عند البعد الإنساني في كل شيء.

ويبقى الكفاح لتحرير العالم والبشر من الرأسمالية وليسمن ظواهرها وتجلياتها المختلفة هو عنوان المعركة من أجل الانسان والدفاع عن وجوده.