من قتل صلاح عبد الصبور

د. أحمد محمد البغدادى

تنويـــه: مقال أدبى فى نطاقه والهدف منه .. عن الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور .. يتركز على انتاجه الشعرى فى دواوين ثلاثة: أحلام الفارس القديم ـ الإبحار فى الذاكرة ـ تأملات فى زمن جريح. وهو بذلك لا يتجاوز الإطار الأدبى والتجربة الشعرية والقاموس الشعرى للشاعر الرائد .. ومن هنا جاء التعبير عن التجربة وقاموسها الشعرى فى هذا المقال بلفظ " شاعرنا ". إلى روحه السلام .. وتحايا المحبة والتقدير.


1ـ صلاح عبد الصبور .. هل كان يرتحل على الأرض .. أم يرتحل بين عذابه وتردده وضعفه؟. وهل كان الارتحال مُفتـاح شخصيته .. أم مُفتـاح حـكايته معنا وحديثى إليكم؟.

2ـ قبل ما يقرب من خمسة أعوام من وفاته الحزينة: كان شاعرنا فى رحلة العودة من مانيلا بالفلبين. وكان قد سطَّر قصيدته بعنوان " الشعر والرماد ". اعترف شاعرنا فى تلك القصيدة بأن مانيلا علمته الدرس، ولكن " بعد فوات الأوان ". كان اعتراف شاعرنا ممزوجا بالحسرة والألم؛ فقد عاش بجسد حبيس فى " تابوت العادة والخوف ". وأصابته الحبسة فتصلب جسمه، وضاعت بهجة العمر. أى خوف هذا الذى فرق بين شاعرنا، وبين فمه وأنفه وعينيه... والذى قضى عليه بعقوبة النفى أو " الاغتراب " عن جسمه أينما ذهب!. هو الاغتراب الذى جعله يصرخ: " انتسب إلى جسمى "، ويضع لعبارته تلك وقصيدته عنوانا وحيدا وعجيبا هو: " انتساب ".

3ـ بين رحلته الأولى إلى جامعة الملك فؤاد الأول فى العام 1947م، ورحلته إلى مانيلا فى العام 1975م سنوات ورحلات. خطت به رحلته الأولى من الزقازيق، وفى جُعبته أحلام الشباب. حملها إلى القاهرة، التى نزلها طلبا " للأنس والمئونة "، حتى فرغ من دراسته فى كلية الآداب. وأسلمته المدينة فى النهاية " مكبرا للصوت " فى بلاط السادة!.
عزيزى القارىء: أرجو أن تبحث عن شبيه، كان يمتلك مثل شجاعة شاعرنا وجرأته، عندما جهر بحاله شعرا، وهو يتخطى الأربعين من عمره. وعندما وصف حاله وكيف أنه أصبح مكبرا للصوت، بل وأصبح " المُغنّى " الذى يقف بين يدى سادته. وكيف أنه كان رابع أربعة، ومعه مسئول البلاط والمؤرخ الرسمى والمهرج، جميعهم من " المؤجرين بالقطعة "!. أقول ـ وفكر معى عزيزى القارىء ـ أنه ربما لم يتفوق عليه فى جرأته وصدقه ـ فى هذا الموضع ـ سوى الشاعر البائس عبد الحميد الديب. والذى أتمنى أن نتوقف عند بؤسه وجرأته ـ الساخرة ـ فى مقال آخر.

4ـ فى تجربته ـ التى سطرها فى دواوينه الثلاثة ـ مكث شاعرنا بين المؤجرين بالقطعة؛ حتى أتقن حرفة المَغنى، وهو يُمجد السادة، الذين هم: " عصبة الأماجد، الأشاوس، الأحامد، الأحاسن ". ولقد انتظم شاعرنا فى حرفته، فى بلاط سادته وهو " مُسمَّل العينين ". ومع ذلك فإنه كان يرى فى حضرتهم مالا يرونه، ويرتحل إلى حيث ما لا يدركون. تبدأ رحلة شاعرنا بالأكفان، وهو الوصف الذى خلعه على سادته، وكشف فيه عن احتقاره لهم. وينتقل من الأكفان إلى الأحلام التى ماتت داخله، عندما كان يحلم " للبؤساء والضعفاء " و " المحيرين الضائعين " و" التائهين فى الظلام ". ماذا كان مصير أحلامه، لقد هرستها الأقدام بعد أن داست " فـؤاده ". ماتت الأحلام فى مهدها، دفنها داخله ـ ويا للوجع ـ حلما وراء حلم!.
هل قرأت من قبل شيئا عن " جثث الأحلام " وهل سمعت ذلك الوصف فى عمل فنى؟. إنها جثث الأحلام التى تطفو لشاعرنا، والتى تؤرقه لأنها لا " تريد أن تنام "!. إنها تحدثه وتُشاغبه، يسقيها أنينه وتُجَرَّعه العذاب. فيها جثة " غريبة "، هى جثة ضحكته ومراحه التى دفنها بالأمس. هى طفلته التى يدعوها للراحة ويهمس لها قائلا: " نامى، أيا طفلتى التى حييت فى ثيابها ". ولقد ضيعت المدينة طفلته ومعها أحلامه، واختلست برائته، وتركته يرتحل بين الموتى وجثثهم. وهكذا يتلمس شاعرنا ولو يوما واحدا من " الطهارة ". ويتمنى لو شرى ما أعطته الدنيا من متاع، " لقاء يومٍ واحدٍ من البكارة ".

5ـ وأرجو ـ عزيزى القارىء ـ أن تتوقف وتتأمل حديث شاعرنا، عن شوقه للبراءة والطهارة. لماذا: لقد فقد " الفارس الهمام " أحلامه بعد أن سُلِبت عدته، وتكسرت راياته واحدةً بعد أخرى. وأصبح قعيدا، كلما أفاق من غفوته: وجد نفسه غريبا لا وطن له. وكم كان خوفه وهلعه، عندما أفلتت منه مشاعر الاحتقار ذات يوم، وهو فى حضرة سادته. وتشكك السادة الحضور فى ولائه، وعوقب بسبب شكهم فيه بالطرد والحرمان.
هل لديك شك ـ عزيزى القارىء ـ أنه رجع بعد حرمانه إلى بلاط السادة!. وأنه رجع ليكون فى حضرة سادته: رابع أربعة من المؤجرين بالقطعة ـ كما وصفهم!. ألم يصرح شاعرنا بمذهبه ويجهر بطريقته؟. أما مذهب شاعرنا ـ فى تجربته التى بين أيدينا ـ فقد وصفه بـ " الفطنة الصفراء ". وأما طريقته فهى " التخفى "، عندما كان شاعرنا يستتر خلف " التورية "، ويتلون على الشاكلة التى يريدها سادته ويأمرونه بها!. هل لاحظت ـ عزيزى القارىء ـ شاعرنا المُرتحِل؛ وهو ينحت مفرداته الشعرية من لحم تجربته وعذاب فؤاده ومِداد عينيه؟.

6ـ من حقك ـ عزيزى القارىء ـ أن تقف عند هذا القدر من اعترافات شاعرنا، وأن تأسى على تجربته ومأساته. ربما لأنك لاحظت أن شاعرنا صرف جهده إلى تجربته الخاصة، على الأقل فى دواوينه الثلاثة التى أتصفحها معك. ولذا فإنك لا تجد ـ فى تلك الدواوين ـ أثرا ملحوظا للمجتمع وقضاياه. ولعلك قارنت بينه وبين شاعر الرفض: أمل دنقل. وفتشت عن صراخ المحرومين. وربما نقبت عن شىء قريب الشبه بقصيدة أمل دنقل الخالدة " لا تصالح "، إذا كنت ـ مثلى ـ ممن يهتمون بمسألة التحرر الوطنى. وأرجو أن تقنع ـ عزيزى القارىء ـ بنصيبك من شاعرنا، لأننا لم نتطلع فى هذه المقالة إلى باب المُقارنة، بين شاعرين كبيرين عاصر أحدهما الآخر. والحق أننا أمام تجربة شعرية تجمع بين الخصوصية والتفرد. وهى بهذين الوصفين لا تقدح فى مكانة شاعرنا، ولا تنتقص من ريادته وقاموسه الشعرى الذى نحته، فلم يذهب أثره بين الشعراء حتى يومنا هذا.

7ـ غير أننى لا أنكر حقك ـ عزيزى القارىء ـ فى التعرف على فصول تجربته الوجودية، قبل أن يُسدل عليها الستار. وليس لدى أدنى اعتراض فى أن تختبر صدق الشاعر، عندما كان يتعامل مع قناعاته. كان شاعرنا يتقلب بين العذاب والملل فى فصوله الأخيرة، ورحلاته الخاتمة. أى أيام تلك التى تقلب فيها شاعرنا، لقد سأم دور المُغنى، فى أيام " تافهة "، بل هى فى الحقيقة " أشلاء " أيام. تشاهد البعض فيها صباحا وقد اشتغلوا بإنكار " الحقوق "؛ وتتلقاهم مساءً بعد مساء؛ وهم ينفقون أجرتهم فى " الحانات "؛ ويعلقون شتات أيامهم فى " مُنحدر الشمس ".

8ـ الآن عزيزى القارىء: جاءت اللحظة الحاسمة، ودقت الساعة المتعبة. الآن يجهر شاعرنا بفكرته، عندما يحمل تجربته ويعلق أخطائها على مِشجَب " القـدر ". يعتقد أنصار " القَدَرية " بأنهم لا إرادة لهم فى تصرفاتهم، وأنهم يعيشون حياتهم فى " تكرارية " مُملة. تُحكِم التكرارية عُقدتها حول عاداتهم وخوفهم، مثلما تُحكِم نظام وحركة " الريح .. الشمس .. الأمطار ". ولقد كان شاعرنا شديد الوعى بفكرته، عندما سلت خيوطها، ونسج منها قصيدته بعنوان " مذكرات الصوفى بشر الحافى ". ابتدر شاعرنا قصيدته تلك بحديثه عن كون " موبوء "، لا أمل فى إصلاحه، وعن أيام " موبوءة " غادرها الإنسان من زمن. وكان من الطبيعى ـ وقد استوبأ شاعرنا الكون والأيام ـ أن يحرضنا تحريضا على " الصمت "؛ لأنه لا فائدة من " الصبر " فى كون " مشئوم ". ومن هنا جاء نداؤه، بل شعاره الذى اطلقه: " لا تجر عكس الأقدار .. واسقط مُختارا فى التكرار ". وهو النداء الذى ذَيَّل به إحدى قصائده، تحت عنوان " تكراريـة ".

9ـ لم يتوقف شاعرنا عند قناعته القدرية، وإنما شرع يستكمل فكرته من حكمة الأديان. عند هذا الموضع يمكنك ـ عزيزى القارىء ـ أن تلحظ ذروة تجربته الوجودية. فى رحلة من جولات ثلاث، كانت جولتها الأولى مُناجاة، وكان عنوانها هو: " أغنية إلى الله ". وقف فيها شاعرنا يشكو عذابه، ويسأل ربه الخلاص: " أم ترى نسيتنى؟ .. الويل لى .. نسيتنى ". ويرتقى شاعرنا فى أمنياته، يفتتحها بالديار التى تخلو من الأحزان. ويختمها بالصفاء، عندما يجدل " حبل الخوف والسأم " يشنق فيه العالم، وينام غارقا، فلا يغوص له حلم. غير أن شاعرنا ـ فى جولته الثانية ـ انتقل من مناجاته وأمنياته وأغنيته إلى " حوارية "، أعلن فيها تمرده. السؤال إذن: على أى شىء كان شاعرنا قد أعلن تمرده؟.

10ـ يبدأ شاعرنا حواريته وتمرده بالسؤال " أين .. أين عطائى يا رب الكون ". ربما كان شاعرنا يبحث عن راحة وسكينة، كانت تأتيه فتخفف عنه آلامه، وكانت سرا دفينا بينه وبين ربه. تُرى هل ذهب عطاؤه، فأصبح نسيا منسيا؟. وفى أتون عذابه يعلن شاعرنا تمرده على رسالة الإنسان، فى هذا الوجود. كيف يكون الإنسان مُطالبا بأن يدعو الشر بإسمه والقهر بإسمه والظلم بإسمه؟. وكيف السبيل إلى ذلك التكليف، عندما يضيع الإنسان فى المدينة، ثم يضيع يقينه؟. وعندما ينال الإنسان فضلة الأمان فى حياته؛ بفضل تخفيه وبسبب فطنته الصفراء. هنا يعترف شاعرنا بضعفه، بل ورفضه لتلك الرسالة قائلا: " لا .. لا .. لا أقدر يا رباه ". وفى تلك اللحظات: كان شاعرنا يتأهب للدخول فى جولة ثالثة فى حواريته، فمن يلوذ به ومن يُجيره، بعد أن أقر بضعفه وأعلن رفضه؟. يتردد شاعرنا بين شَقٍ فى الأرض، وسفينةٍ فى الماء، تمنى أن تحمله هذه أو يسكن فى تلك. وإنه ليسعى إلى مصير عاقبته العدم، وهو يبحث عن " قُمقُم "، يتسلل إلى جوفه، ثم يستحيل فيه " ريحا وبخارا " .. نعم " ريحا وبخارا "!.

11ـ ولعلك لاحظت ـ عزيزى القارىء ـ أثرا خفيا، احتمله شاعرنا من فكرة الطواف والسعى فى تراث العرب والمسلمين. ولاحظت أثرا جليا، لفكرة التكليف فى القرآن الكريم، ورسالة الإنسان فيه. ولقد جاب شاعرنا وجال فى التراث، وأخذ يتنقل بين مريم المجدلية وغار حراء ودار الندوة ونجوى المتصوفة... فاقتفى أثره اللاحقون وتنافس فى إثره المتنافسون. كان شاعرنا بين مجموعة من الرواد؛ الذين نهلوا من التراث؛ غير أنهم لم يتوقفوا عند حد الاقتباس منه. وليس من المُبالغة القول: إن التراث كان يُبعث على أيدى هؤلاء الرواد حيا على قدمين، ويتم توظيفه من جديد فى قضايا الإنسان ومجتمعه... توظيف يصنع الدهشة وتتخلق منه التساؤلات وتلوح فيه التناقضات، ويتجاوز فيه الأديب دور الحكَّاء ورتبة القصَّاص. هل تريد بعض الأمثلة ـ عزيزى القارىء ـ وهلا طالعت " مأساة الحجاج " عند شاعرنا!. وهل مكثت بين يدى أمل دنقل، تتسمع إلى قصيدته " مقابلة خاصة مع ابن نوح "!. وهلا انْصَتَ إلى عبد الرحمن الشرقاوى، عندما كتب فى حضرة الإمام الحسين عليه السلام ـ ثائرا وشهيدا!.

12ـ رب قائل: تلك كانت تجربة شاعرنا بما لها وما عليها. وأنه لا بأس بأن نقنع بما تفيض به من رقة وإنسانية، ومن صراحةٍ وجرأة. ورب قائل: بل هى المُراوغة، عندما يتجاوز الشاعر طلب التطهر وسؤال النجاة. وربما تبدت المُراوغة وظهرت جلية لدى أصحاب تلك المقولة. وذلك عندما توقفوا أمام شاعرنا، وما كتبه تحت عنوان " حكايات قديمة ". تسائل شاعرنا فيها حكاياته القديمة قائلا: " أيهما أَحب نفسه .. أيهما أَحبنا ". كان شاعرنا يقارن بين نوعين من الناس؛ بين من هوى عمدا فى بلاط السادة، مقابل شيئا من متاع الدنيا، ثم انتحر فى النهاية. وبين من ادعى الطهارة ـ كذبا، وتاجر بالشجاعة ـ زورا. وأصبح ـ رغم كذبه وزوره ـ " مُباركا مُعمَّدا ". فى هذا الموضع كان شاعرنا يستريح قليلا من مذهب القدرية الذى ارتضاه. وعند هذا الموضع قد يُشهر البعض عريضته، يتهم فيها شاعرنا بالمُساومة ويرميه بالمُراوغة.

13ـ ومع ذلك فإننى أتوسل إليك ـ عزيزى القارىء ـ ألا ترتدى مسوح الرهبان، أو تُلَوِح بسيف الفرسان. فى موضع ينبغى فيه أن تتفهم الضعف الإنسانى، وأنت تتعمق فى تجربة إنسانية، معجونة بالألم والتردد. تجربة شاء القدر أن يُرخى سِترها بجولةٍ أخيرة من الألم والعذاب!. عندما لم يتحمل قلب شاعرنا مثل تلك الاتهامات، فأصاب شررها فؤاده الضعيف. وحملوه ذات ليلة إلى المَشفى، حتى أسلم روحه فى 14 أغسطس 1981م.
وإننى أدعوك ـ عزيزى القارىء ـ لأن تفتش فى التاريخ، كم من الأدباء ـ والأبطال والحكماء ـ عاش مثل تلك التجربة التى كابدها شاعرنا؟. وأتوسل إليك أن تتطلع إلى الناس من حولك، وأن تجيب على سؤالى: كم واحدٍ منهم مازالت التجربة تعصف بقلبه، ويتقلب على نارها عذابا وترددا؟. وكم واحدٍ منهم استجار بالقدر .. ثم استجار منه!. وكم واحدٍ منهم مازلنا فى حيرة من أمره، وفى حيرة من أمرنا معه، ومازلنا نسأل بشأنه: هل كان يحب نفسه .. أم كان يحبنا!.