..
التنوير هو صراع بين رؤى قديمة ورؤى حديثة وتلك الرؤى لا تتواجد محلقة في فضاء التاريخ ولكنها طرح ولحمة وسداة تشكيلات بأكملها، وبالتالي فإن الطرفين الرئيسيين لأي عملية تنوير هو الصراع بين تشكيلتين أو الصراع بين توجهين اقتصاديين. وخلاصة القول فإن التنوير هو دعاية ودعاية مضادة لمصالح طبقية متعارضة.
وإن امتدت شبكات تلك المصالح إلى خارج الوطن وصار الوطن أسيرًا لمصالح طبقية أجنبية، تحوّل التنوير لدعاية ودعاية مضادة لمصالح طبقية ووطنية متعارضة.
فعندما تبدأ المستقرات الاجتماعية والاقتصادية في التحلحل والتغيّر فإن الأُطر والقوالب الثقافية والقانونية والأخلاقية والدينية تبتدئ في الضيق على جسد المجتمع الآخذ في النمو والتحول. ولأن تلك القوالب لها مؤسسات ولها حواضن اجتماعية في البنى الاقتصادية القديمة، ما يدفع لنشوء صراع بين المؤسسات الجديدة بحواضنها الاجتماعية وبين تلك المؤسسات القديمة بحواضنها الاجتماعية. وقد ظهر مصطلح التنوير، أو عصر الأنوار، عندما احتدم الصراع في أوروبا بين التشكيلة الإقطاعية البالية وبين المجتمع البرجوازي الجنيني الذي كان ينمو في المدن البعيدة نسبيًا عن سيطرة الريف الإقطاعي، منتزعًا مع مرور الوقت مساحات من السيطرة الجديدة. وكان الصراع هنا بين رؤية ذلك المجتمع الجديد للعالم وبين الرؤية القديمة التي سيطرت عليها القلعة والكنيسة في حين كان المجتمع الجديد يبغى سيطرة الجامعة والمصنع.
إذًا، ما يفرض ويحدد نوعية قضايا التنوير هو طبيعة الصراع الناتج عن مستوى معين من التطور الاجتماعي الذي يُعتبر إدراكه منطلقًا لعملية التحليل وإلا أصبح التنوير قضية شخصية؛ وهنا ما يجعلنا نقول إن التنوير ليس قضية شخصية وإنما قضية جماعية ووطنية وإنسانية.
فإن كانت طبيعة الصراع هي بين الإقطاع وبين البرجوازية حول نمط إنتاج جديد أصبح الأمر هنا واضحًا جدًا؛ فتصبح القضايا حول الحقوق الطبيعية في مقابل حقوق النبالة، والحقوق السياسية وانفصال السلطات والديمقراطية في مقابل الحق الإلهي والأوتوقراطية، وحرية التجارة مقابل العراقيل الإقطاعية التي تُجزّئ السوق الداخلي. كذلك تصبح قضية الوحدة القومية مطروحة كبديل عن التفتت الإقطاعي لأنها تُخدّم على المبدأ الاقتصادي العام ويصبح تحرير الأقنان والعبيد من المطالب الملحة اقتصاديًا حتى لو لبس النضال حولها قناع شاعري ورومانسي وإنساني. كما تصبح حرية البحث والنشر والرأي والتفكير والاعتقاد في مقابل احتكار الكنيسة لسلطة التفسير والتفكير والاعتقاد، لتصير سلطة العلم في مقابل سلطة الدين، وسلطة استقراء التجربة العلمية والاستنباط الفلسفي أعظم من سلطة المحفوظات والفتوحات والشروح الآتية من النصوص المقدسة، حيث تفضي سيادة العقل والتجربة إلى نمو تكنولوجي ومعرفي يُنمّي المقدرات الاقتصادية ويُربي الربح في التحليل الأخير. أما المرأة فتأخذ حقوقها "التي تتمثل في البداية في حقها في التساوي مع الرجل في عبوديتهما أمام الرأسمالي" في خضم احتياج الرأسمالي إلى كل الأيدي العاملة كثيفة العدد لكي تدير له عجلة الربح والإنتاج الأبدية! فتتساوى المرأة تدريجيًا مع الرجل فتخرج من القرية للمدينة وتخرج من العمل المنزلي إلى العمل الصناعي، فتمتلك زمام استقلالها الاقتصادي، ولو نسبيًّا، وتتعلم بحكم الضرورة فيزيد اتساع أفقها وتسكن بمعزل عن أهلها تمارس حريتها الجنسية كما الرجل تدريجيًا، خاصة عندما يطرح التقدم العلمي وسائل منع الحمل على صعيد شعبي.
هل حرر التنوير البرجوازي الإنسان؟ نعم قد حرر الإنسان، ولكن جزئيًا. فإن كان قد حرره من أوهام الدين في البداية فقد تورطت الرأسمالية في تكريس الخرافة مرة أخرى سواء في الأطراف أو حتى المراكز وذلك لضمان الهيمنة. ذلك بعد أن عانت من المد العالي للثورات الاشتراكية في المراكز وحركة التحرر الوطني العالمية في الأطراف. كذلك، قد حررت الفرد من عقدة الإنابة؛ بمعنى إحالة الفرد ملكاته في التفكير والنقد والاختيار إلى مؤسسة أو شخصية دينية وصار الإنسان أكثر قدرة وشجاعة على اتخاذ قرارته بمعزل عن أي ظهير غيبي، كما تطورت ذاتية الإنسان عن ذي قبل ونمت مساحة الخصوصية في مجتمع المدينة الرحب والواسع والمتنوع والمثير للخيال عكس مجتمع القرية الرتيب والضيق. ما يمكن اختصاره في إجابة إيمانويل كانت عن سؤال ما هو التنوير؟ حيث أجاب: "إنه خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن النضج أو سن الرشد." كما عرَّف القصور العقلي على أنه "التبعية للآخرين وعدم القدرة على التفكير الشخصي أو السلوك في الحياة أو اتخاذ أي قرار بدون استشارة الشخص الوصي علينا." ومن هذا المنظور جاءت صرخته التنويرية: "اعملوا عقولكم أيها البشر! لتكن لكم الجرأة على استخدام عقولكم! فلا تتواكلوا بعد اليوم ولا تستسلموا للكسل والمقدور والمكتوب. تحركوا وانشطوا وانخرطوا في الحياة بشكل إيجابي متبصر."
كما حذر من الطاعة العمياء للقادة أو لرجال الدين، إنها ثورة حقيقية لتحرير الإنسان ليصبح ترسًا في التشكيلة الجديدة، فهي كما تحتاج إلى العمال الأحرار من أسر القنانة الإقطاعي، تحتاج إلى العلماء والتقنيين الأحرار من أسر الأسطورة الخرافة والتراث الكنيسي.
هذا هو التنوير في مطلع عصرنا الحديث، كان انعكاسًا وضرورة لتشكيلة اقتصادية اجتماعية آخذة في النمو والسيطرة على المجتمع الأوروبي، وكانت القضايا المطروحة متوافقة مع متطلبات المجتمع النامي ونمطه الجديد في الإنتاج. هذا مع غياب أي تأثير أجنبي خارجي يضغط بشكل أبو بآخر بتدخلاته لحرف مسار التطور ليتجه نحو تكريس مصالح تلك الجهات الأجنبية، فلم تكن ظاهرة الاستعمار الحديث قد ظهرت لأنها كانت آخذة في النمو في رحم برجوازيات أوروبا بدورها، فالاستعمار هو قرين التنوير وعلاقات الإنتاج الرأسمالية.
من هنا ندرك أزمة تجربة التنوير العربية، ففي حين كان التنوير الأوروبي يواجه القلعة والقصر والكنيسة، يواجه التنوير في دول الأطراف خليطًا غير منتظم من تداخلات بين القصر والقلعة والبرجوازي والكنيسة "المؤسسة الدينية السائدة" والسفارة أو دار المندوب السامي. والمعضلة هنا في الإضافة الجديدة والتداخل في الأدوار، فكما تعاون الجيش البروسي الذي مثل الإقطاع المتبرجز والملكية الأوتوقراطية مع البرجوازية الفرنسية المهزومة في الحرب السبعينية ضد كميونة العمال في باريس، أصبح الأمر مشابهًا لذلك في مجتمعات الأطراف. فصار البرجوازي "الكمبرادور" في حالتنا متعاونًا مع الإقطاعي و مع الكنيسة أو المؤسسة الدينية وصار القصر الذي تتمثل فيه السلطة غير الشعبية التي تسيطر على جهاز الدولة بغض النظر عن مسماها، سواء ملكية أو جمهورية وسواء أتى رأسها بانتخابات شكلية أو بالتوريث العائلي، خاضعًا للطبقات الحاكمة في المراكز والتي تمارس دورها من خلال ما يمكن أن نطلق عليه "سلطة السفارة"، "طبعا لا غنى من التوضيح أن مسألة السيطرة متجاوزة تماما ذلك الشكل الميكانيكي إلى مستوى الاندماج العضوي للمصالح ما بين المراكز الرأسمالية والطبقات الوكيلة ".
هنا تصير مهمة التنويري "المُتمثل لمبدأ وحدة قضايا الصراع، فقضية الاستقلال الوطني لا تنفصل عن قضية العدل الاجتماعي" شديدة التعقيد والتركيب. فالصراع غير واضح تماما، فكل تلك الشرائح التي تواجه الشعب بمثقفيه الوطنيين ليست على وفاق تام بل تدخل في صراعات بينية كثيرة بحكم المصالح الجزئية المتعارضة والمرتبطة بشبكة تحالفات خارجية ذات توجهات أيديولوجية متناقضة. كذلك تأتي المشكلة الثانية من اختلاف مسارات التعليم والمعرفة والثقافة. ففي حين كان الأوروبي ينشأ ما بين التعليم البرجوازي العلماني أو بين التعليم الكنسي الإقطاعي أو يفضي الكنسي إلى العلماني، وكانت حركة التعليم تطفو فوق تيار حركة التاريخ مدفوعةً بقوة الضرورة لتثوير المجتمع الإقطاعي وبرجزته وتمدينه وكانت الفلسفات التي تصدر كلَّ حين تتوافق مع مراحل التطور الاقتصادي والاجتماعي، تعبر عنها وتبشر بمرحلة أكثر تقدمًا؛ أما في دول الأطراف فإن الأمر غاية في الاختلاط والتشعب والتشويش، فأخطر ما واجه عملية التنوير هو استحضار مراحل التنوير الأوروبي في ذهنية المثقف وانتقاؤه حسب ميوله الشخصية حقبةً من حقب الفلسفة مثلاً فيتخذها مرشدًا ويرى فيها حلًّا لأزمات المجتمع العربي، بالرغم من أن تلك الفلسفة قد ظهرت تعبيرًا وتبشيرًا لمرحلة من التطور الاقتصادي والاجتماعي لم نصلها بعد فضلا عن أنها تخص سياق التطور الأوروبي، فهي لا تقدم حلولًا للمجتمع بقدر ما تقدم حلولًا لعقد المثقف النفسية وأزماته الشخصية مع ذاته ومع مجتمعه.
وبالمقارنة بين فلسفات عصر الأنوار الأوروبي، والتي تميزت بالشمول والعمق والأصالة والوضوح "لوضوح أطراف الصراع التي ذكرتها سلفًا"، اتسمت عملية التنوير عنده بالتجزئة والصعوبة والانتحال والتشويش، ذلك لطبيعة التشوش وتداخل أطراف الصراع وعدم وضوحها وكثرة التقاطعات بين الذي "هو مع" والذي "هو ضد"، فتناثرت حملات التنوير السطحية التي تنبع سطحيتها من أنها تتناول أزمات المتحدث أو الكاتب الشخصية أكثر مما تتناول أزمات المجتمع.
فتلك، مثلا، لا يشغلها إلا ارتداء الفستان وهذا لا يشغله إلا أن يُمنح الشواذ حرية إعلان شذوذهم وذلك يرى أن الحرية في زواج المثليين، تلك الحقوق التي لا تعني لنا شيئًا على الحقيقة ولا تراكم في سبيل انعتاقنا الحقيقي من ربقة أسرنا وقنانتنا الحقيقية. فلا يمكن بأي حال أن تتم عملية التنوير بمعزل عن قضايا الواقع الملحة، فالتنوير هو ثورة على البناء الفوقي لمجتمعٍ ما في زمنٍ ما في إطارٍ من الصراعات المحددة سلفًا. أما هذا النوع من الكُتّاب الذي ينعزل في برجه العالي والذي يعتصم من ضجيج المجتمع بعالمه الداخلي "رغم أن هذا العالم الداخلي لا يوجد إلا مجازًا، فذلك العالم الخاص جدًا الموجود في ذهن الكاتب هو نتاج تناقضات المجتمع أيضًا "لا يقدم شيئا على مسار التحديث. وإنّ ما يُلح على ذهن الكاتب لا يكون تنويرا إلا إذا اشتبك مع قضايا المجتمع.
إن التنوير هو ميدان من ميادين الصراع الطبقي، ببعديه المحلي والعالمي ويختلف الأمر عندما يتم التنوير في حال الجدل الداخلي، المبرأ من التدخلات الخارجية كما كان الحال في عصر الأنوار الأوروبي، عنه عندما يتم في حال وجود ظاهرة الاستعمار والتدخل الخارجي، ويختلف عنه بشكل أكثر كثافة وحدّة في حال قدرة منظومة النهب في عصرنا الحالي بعد أن تراكمت لها قدرات معرفية وتكنولوجية وسلطوية على إعادة هندسة مجتمعات بالكامل لدرجة تسمح بتغير مسار تطور تلك المجتمعات المنتهكة السيادة.
فنسأل هل يصبح هدف التنوير في ظل تلك الظروف هو الوصول إلى التماثل الثقافي والسلوكي مع دول المراكز رغم الفارق في التطور التاريخي واختلاف الروافد الحضارية والثوابت الجغرافية وأزمات الواقع الحالي. أم يتحول الهدف ليصير هو الاشتباك مع البناء الفوقي لمجتمع يعاني من متلازمة التخلف والتبعية، ذلك عندما يعني التخلف عدم تطور المجتمع وضمور قدرته الذاتية وضعفها عن المرور من تشكيلة إلى تشكيلة، أو تعثره وبقاءه في مرحلة وسيطة خليط تجمع بين سيئات تشكيلتين "كحال أغلب دول عالم الأطراف"، "من تريف المدينة واصطباغ الريف بالطابع الاستهلاكي"، وعندما تعني التبعية ارتهان المجتمع في عجلة منظومة النهب ككل، وبالتالي تصبح الطبقة الحاكمة بكل شرائحها الممتدة في السلطة أو المعارضة هي الانعكاس المباشر لهذا النوع من التنوير المبتسر والمدجّن والمتخلف في آن واحد، فالتنوير في دول الأطراف في عصر الإمبريالية المعولمة قادر على أن يجمع بين المتناقضات.
ذلك لأن طبيعة التنوير تختلف في كل مرحلة من مراحل تطور ظاهرة الرأسمالية نفسها ونمو المنظومة وتعثرها. فالآن، تهدف المنظومة إلى فاعليات تجزيئية وفاعليات ماضوية وفاعليات تشييئية لكي تستطيع أن تُحكم السيطرة على الأطراف التي تحاول أن تقاوم.
وعليه، فليس تنويرًا ما يُكرِّس للتفتيت أو يُكرس للتبعية أو يُكرس للغيبية والخرافة أو يُكرس للتسلط أو يُكرس للانحلال الأخلاقي أو العدمية، في وقت نحتاج فيه إلى حشد كل الطاقات في سبيل التحرر. فالفلسفات العدمية والوجودية والتي تصب في عزلة الفرد عن مجتمعه هي ليست تنويرًا وإن ارتدت مسوح التنوير، فليس البعد عن تراث التشكيلة الخراجية بأي شكل هو المستهدف في حد ذاته وليس تنويرا في ذاته، إذ لا وجود لتنوير مجرد. الأمر ينحصر في اتجاه التحرك من التراث، لكن إلى أين؟ وليس تنويرًا ما يفضي إلى تفتيت سياسي لتقفيصات الاستعمار الكلاسيكية لخلق تقفيصات أضيق وأضيق مع مرور الزمن. كذلك، فإن المنظومة القيمية والسلوكية هي بنت واقعها وبنت لحظتها التاريخية وبنت ضرورات التطور للمجتمع في لحظة ما. فما علاقة مجتمع متآكل زراعيا، متضائل صناعيا، تتخبل قدماه في قيود التبعية بحرية المثليين. ما أولوية ذلك وما أهميته وما أهمية الأفكار التي تثار عنها من الأساس؟
التنوير الذي يؤدي إلى نقلات نوعية في تاريخ الإنسانية هو الذي يزيد مساحة الحرية الحقيقية لعدد ضخم من البشر على مساحة واسعة من الجغرافيا. فإذا كانت الحرية في عصر الأنوار الأوروبي تعني حرية البرجوازي في أن يعبر الطرق والجسور والغابات من غير أن يدفع الإتاوات للإقطاعي وحريته في الحكم الذاتي للمدينة التي يعيش فيها، كذلك عندما تطور نمط الإنتاج البرجوازي من التجاري إلى الرأسمالي الصناعي أصبحت الحرية هي حرية القن في أن ينتقل بدون إذن مسبق من سيده الإقطاعي ليعيش في المدينة كي يستطيع الرأسمالي الصناعي أن يجد الأيدي العاملة الكافية؛ تماما كما حدث في الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال الصناعي والجنوب الإقطاعي، فتحرير العبيد كان محمولًا على مصالح البرجوازي الصناعي في الشمال . كذلك تطور مفهوم الحرية السياسية وهي التي تعني أن ينال البرجوازي قسطًا أوفر من السلطة كي يستطيع أن يُشرف على إدارة الدولة حتى تسير الأمور حسب مصالحه، فيأخذ العداء لسلطة الملك والأوتوقراطية في الانتشار. وظهرت فكرة العقد الاجتماعي كبديل عن الحق الإلهي، وظهرت فكرة الحقوق الطبيعية التي تُمتلك بمجرد كونك إنسان كبديل عن فكرة حقوق النبالة التي تأتي بالوراثة عبر سلالات وطبقات محددة. كل ذلك لحلحلة وتفكيك التراث الفكري والفلسفي والقانوني الذي يشرعن لسيطرة الطبقة الإقطاعية على مقاليد الأمور.
لكن، الآن في عصر اختفت فيه القنانة المباشرة أو عبودية الرأس، أصبح للحرية مفهوم مختلف تماما. فكما كان الصراع بين طبقة البرجوازية وطبقة النبلاء والقصر والكنيسة، صار الصراع بين الطبقات الشعبية من ناحية وبين أوليجاركية المراكز والوكلاء المحليين وكل هيئات ومنظمات ومؤسسات تكريس سيادة المنظومة في الوعي، من منظمات مجتمع مدني وأكاديميات تُدرس فلسفات وأطروحات تُكرس للهيمنة ومؤسسات دينية حفرية تعمق ذهنية الخرافة. هنا يحمل المضطلع بمهمة التنوير، على أرضية تراعي وحدة الوطني بالاجتماعي، مهمة مزدوجة وهي مواجهة المؤسسات الحفرية وتراثها، بقايا العصر الخراجي ومواجهة الأطروحات الاستعمارية للمراكز.
إنها مهمة مواجهة متلازمة التخلف والتبعية في نفس الوقت وفي نفس الخطاب الفلسفي.
ذلك لأن الحرية هنا ستعني الاستقلال الوطني أولًا، وتحرير الإنسان من منظومة الاستعباد الاجتماعي ثانيًا.
لذلك، فالتنوير يجب أن ينطلق من موقع طبقي وأيديولوجي محدد، فليس هناك تنوير في المطلق أو معلق في فراغ مثالي وهمي بلا أي انتماء أو مرجعية طبقية. إن التنوير ليس عملية خلق إنتليجنسيا أو طليعة في الفراغ، ولكن التنوير هو عملية خلق قيادة ما لصراع يحتدم في الأفق أو ما بين أيدينا. ولذلك، فإن لم يُحدِّد الخطاب التنويري الطبيعةَ الطبقية للصراع وتداخلها مع ظاهرة الاستعمار بشكل واضح فهو ليس تنويرًا وإنما هو تدليسٌ. أو لنقل كي نكون أكثر موضوعية، هو مجرد دعاية طبقية لتكريس مصالح طبقية محددة. ولذلك نؤكد على أن التنوير في مجتمعنا ليس تنويرًا واحدًا بل هو عدد من التنويرات المتوازية (إن جاز التعبير) والمتناقضة جوهريًّا. فكل طبقة وكل إيديولوجية لها طبيعة خاصة ومفهوم عن التنوير وتعالج نفس القضايا بشكل مختلف تماما، وبالتالي فإن التنوير الذي يتناول موضوع "العدالة الاجتماعية" بدون التحديدات التي نوّهنا بأهميتها سيصبح عملية فضفاضة لدرجة أنها قادرة على احتواء المتناقضات جنبا إلى جنب وممارسة أبشع أنواع التدليس. وإن كان التنوير هو جزء من الصراع الطبقي، فهو بالضرورة في عالم الأطراف يمثل ركنًا أصيلا من الصراع حول الاستقلال الوطني للأمم المستعمَرة، وإن سقط أو تم تناسي هذا المحور في الخطاب التنويري فلا يُنتظر منه شيء، بل نستطيع أن نقول إنه خطاب يستبطن السردية الاستعمارية.
ثم إن كل القضايا التنويرية الكبرى التي تجري على الألسنة حاليًا (والتي تمثل كما يُفترض نقاط التماس الساخنة بين تشكيلة مجتمعنا القديم والتشكيلة التي نطمح إليها) تتم معالجتها بشكل مجزأ ومبتسر منفصلة عن أصل طبيعة الصراع وهي لذلك، وفي إطار الرؤية الشاملة، لا تخدم إلا منظومة النهب.
فالمشكلة الغالبة لعملية التنوير عندنا أنه تنوير مجزأ وليس كلي النظرة لأزمة مجتمع في مسار تاريخه الطويل وصراعه مع تلك المنظومة.
إن التنوير في عالم الأطراف، في ظل هيمنة الرأسمالية المعولمة، هو مهمة بالغة الضخامة والعمق والشمول وهي مهمة ذات أفق في غاية الاتساع تظلل على الماضي والحاضر والمستقبل وإن من يشارك فيها بهذا الوعي الطبقي على الصعيدين المحلي والعالمي يشارك في مهمة فارقة في تاريخ الإنسانية، حيث مصير النوع البشري والحضارة على المحك، فإما الفوضى والدمار أو التأسيس لعصر جديد. إن شعوب الجنوب السمراء أمامها فرصة تاريخية نادرة لتعيد تأسيس تجربة الاستقرار الإنساني على قواعد جديدة تأخذ من روح شعوب الجنوب المتسامحة والأكثر انفتاحا في جوهرها بعد أن طمر الأوروبي الأبيض العالم بسوءات العنصرية والاستغلال الممنهج.
إن شعوب الجنوب السمراء ستقدم أطروحات عصر الأنوار الجديد التي ستؤسس، في حال خروج البشرية من نفق الرأسمالية المظلم، لعصر استقرارٍ إنسانيّ جديد.
فالصراع مع الفكر الديني، على سبيل المثال، إن أفضى إلى تكريس سيطرة الفكر الديني نفسه أصبح مجهودًا في سبيل تكريس التبعية لمنظومة النهب. وإن أفضى إلى خلق جيل بلا أي منظومة قيمية وبلا أي ثوابت من أي نوع كزُمر العلمانيين الجدد فهو يُفضي إلى تكريس التبعية أيضًا.
التنوير المطلوب هو الذي يبدأ من العام للخاص ويُقدم القضايا التي يُعالجها في إطار عام من الصراع المزمن مع منظومة النهب حول التحرر الوطني والتقدم الاقتصادي والاجتماعي. هنا يمكننا فضح العلاقة بين فكرة، مثل النقاب، ومنظومة النهب وهنا فقط يصبح من يُصر على ارتداء المرأة للنقاب هو عميل بشكل غير مباشر للمنظومة، لأنه يبغي تنميط وقولبة المسلمين والعرب في إطار من التخلف الذي يُستخدم بعد ذلك في ترهيب سكان المراكز نفسهم، فيصبح الطرح هناك حكم المنظومة أو الإرهاب الإسلامي فضلا عن دوره في الأطراف كقوة تدمير ذاتي اختبرنا هول ضررها خلال العقد الماضي.
ولا مجال هنا للقول إن التنوير بمنطلق وطني يعارضه المنطلق الإنساني، فالإنساني هنا تعارضه المركزية الأوروبية. فالمنطق الوطني في التنوير غير ذلك المنطق القومي المتعصب الذي نشأ في المراكز وهو تنوير معتدٍ وناهب، ولكنه في الأطراف تنوير بمعناه الإنساني المقاوم للاعتداء. إذ عندما نقوم بالتنوير على أساس وطني في ظل هيمنة منظومة النهب، نقوم بالتنوير على أساس إنساني عام فاسحين المجال للثقافة العالمية أن تُضاف إليها حصيلة تجارب أمم أعرق وحضارات أرسخ. كما أن الإنسانية هنا تكمن في أعمق معانيها في انتزاع الحرية لملايين ومليارات البشر من أغلال استغلال ونهب وقمع المنظومة المتوحشة، فليس ثمة من تعارض بين الوطني والإنساني إنما التعارض بين استقلال وطني وتبعية وبين الإنسانية والمركزية الأوروبية.
وفي المجمل، يصبح هدف التنوير هو تركيم الحقوق حول الحريات العامة والسياسة والنقابية والفكرية والعقائدية والشخصية في مقابل الاستبداد الطبقي والكهنوتي والسلطوي والرجعي، وفي سبيل الوحدة على الصعيد القومي الأممي في مقابل التفتيت الذي تدفع فواتيره الملايين من الطبقات الشعبية. سلطة الطبقات الشعبية عبر مؤسساتها الإنتاجية في مقابل دكتاتورية الوكلاء وديمقراطية الصندوق الوهمية، وفي سبيل اقتصاد معتمد على الذات قائم على قاعدة مواردية ملائمة يقدمها حيز جغرافي واسع تُلضم عرى أجزائه بخيوط أطروحات الوحدة القومية والإقليمية، وفي سبيل ثقافة علمية كبديل عن ركام التراث البالي المُخزّن في أقبية المؤسسات الكهنوتية القروسطية، وفي سبيل تحرير الدين والتاريخ والفلسفة والعلم، تحرير الإنساني والإلهي بشكل عام من أغلال أطروحات السردية الاستعمارية.