طبقًا لتقرير حالة منشور بمجلة الطب والحروب والبقيا، يقول محمد كونجي وأصف علي، الطبيبان في الكلية الملكية بلندن: "لم تكن أدوية علاج "لوكيميا الخلايا
مولدة اللمف" في الأطفال، المتاحة داخل العراق تكفي أكثر من ثلث الأطفال
المصابين، ما زاد معدل الوفيات بينهم و أنقص معدل البقيا بدون انتكاس بعد العلاج
من 60% عام 1988 إلي 25% عام 1997 "(1)
ورغم إن هدف هذه المقالات ليس تبيان أو تعداد جرائم الغرب والأمم المتحدة وما يسمى بالعالم الحر تجاه العراق وشعبه ولكن هذا التعداد والتبيين مبرر لبيان أهمية التصنيع الدوائي العربي وتوطين هذه الصناعة ولو على
مستوي الإقليم في مركز أو أكثر لتكون إتاحيته ممكنة في حالات العدوان الأممي
والحصار الشامل ولتبيين الأثر المدمر لوضع ملف هذه الصناعة كأولوية مؤجلة أو غير
ملحة لدى أنظمة التحرر الوطني العربية لفترة طويلة بسبب ضعف وعيها وقصور فهمها, ففي
الكثير من الأحوال تعاملت حركة التحرر العربية مع صناعة الدواء وفق النظر الساذج
اللذي ندد به مالك بن نبي في كتبه خلال الأربعينيات والخمسينيات، أي مساواة العقل
العربي بين امتلاك أشياء الحضارة وامتلاك القدرة علي إنتاجها.
والوقوف من ثم عند مستوي إنتاج السلع الاستهلاكية محليا ضمن استراتيجية "الإحلال محل الواردات" كسدرة منتهى لا داعي للتقدم إلى
ما ورائها. بيد أن التطورات اللاحقة وتمكن الطبقات الرأسمالية المحلية من تسيير دفة
الاقتصاد والسياسة والعسكرية في البلدان العربية راكم وعمّق تخلف مجتمعاتها على مستوى
التصنيع الدوائي أكثر بكثير مما قصرت الطليعة العربية قبل الغزو الأمريكي للعراق.
ففي سوريا ومع برنامج الخصخصة نمت إمكانات إنتاج الدواء محليا بسرعة أسية لكنها أيضا عمّقت الاعتماد على الخارج وزادت من أزمة
الليرة السورية باعتمادها المطلق والمزمن وبلا أدني محاولة للفكاك، على استيراد
مدخلات الإنتاج جميعها حتى عبوات الدواء وأحبار الطباعة التي تزين تلك العبوات رغم
وجود خبرات هائلة في الجامعات السورية في مجالات الكيمياء والهندسة إلا إنها لم
تستدع أبدا لحل المشكل و التخلص من ذلك العوار والنتيجة أن عقوبات قيصر وغيرها قد
جاءت فتركت سورية تحت رحمة الدولار والمهربين. إن طبقة الكمبرادور العربية التي
غضت البصر طوال الوقت عن الأهمية الاستراتيجية والوجودية لتوطين دائرة التصنيع
داخليا واكتفت بنحت نصيبها من الأسواق المحلية وتقاسم أرباحها مع العلامات
التجارية العالمية قد تصرفت بطمع وانحطاط بالتكالب على سوقها الداخلية كواحد من
الأغيار. لكن هذا ليس عيبا أخلاقيا خاصا بالكمبرادورية السورية أو العراقية أو
المصرية إنه طابع الرأسمالية وأفقها الأعلى في بلدان لا تلعب في تقسيم العمل الدولي
والتراتبية العالمية للسوق سوى دور الأطراف، تماما كما مثّلته العقلية الإغريقية
القديمة فجعلت طبقة السادة من رأس الإله وصدره بينما خلقت العبيد من ساقيه. ولا
تزال الكمبرادورية السورية تقف متفرجة وستستمر في الفرجة فهي لا ترى أزمة الشعب
السوري بل ترى السوق السورية ومتى توفرت الدولارات سوف تواصل الإنتاج وإذا سمح
الأمريكي ورفع العقوبات فسوف تنتعش تجارة الدواء وتزيد الأرباح أما والأزمة محتدمة
فهي ستتنحّى جانبا، لن تتقدم لفك دائرة الحصار وتَقدم على إنتاج خامات الدواء أو
تصنيع خطوط إنتاجه فهذه ليست مهمتها، وهي لم تنشأ كرأسمالية تملك ملفات ابتكار
أصلا. إن التكون التاريخي والدور المنوط للرأسمالية في أطراف النظام الرأسمالي يحكم
على واقعها ومستقبلها معا. من ناحية أخرى ماذا كان دور هذه الطبقة في التعامل مع
الاحتكار العلمي الغربي؟ هنا المثال الأوضح والمكشوف معلوماتيا وسلوكيا أكثر هو
الطبقة في مصر الحزينة، هذه الطبقة المثيرة للاشمئزاز أكثر من أي مكان أخر. إن سوق
الدواء المصرية من حيث الحجم تقترب جدا من حجمها في دولة غنية مثل إسبانيا وقد
حققت بعض الشركات الخاصة نجاحات كبيرة في خضم تخارج أو بالأصح، عزل، القطاع العام
المصري عن السوق وفتحه للاستثمار الأجنبي والمحلي.
قامت شركات خاصة صغيرة في الثمانينيات
بوراثة سوق القطاع العام في بعض المستحضرات، وأخرى قامت بالشراكة معه فنمت بفضله
وعلى حسابه (إيبيكو) وأصبحت عملاقا محليا وإقليميا إلى جانب الاحتكارات العالمية
التي استقطعت حصة هائلة من السوق المحلية بفضل قدرتها المالية على توظيف جيوش من
المندوبين مزودين بسيارات حديثة وجذب الصيادلة والأطباء إلى العمل معها فاستطاعت
تثبيت منتجاتها لثلاثين سنة فيه ومع ذلك فإذا كانت حجم سوق الدواء المصري تقترب من
المليارات العشرة سنويا (بالدولار ) فالقطاع الخاص المصري لديه نصيب يقترب من
نصفها وبعض الكبار فيه يملك حصة أسد في ذلك الرقم التقديري، ومع وفرة العملة
الصعبة نسبيا في مصر مقارنة بسوريا فإن الرأسمالية المصرية مقارنة بنظيرتها
السورية
في وضع أفضل بكثير جدا جدا جدا، فهي تملك خطوط إنتاج من أحدث ما يكون وأرباحا تقدر بمليارات الدولارات سنويا، أحدهم تبرع لمدينة زويل
المزعومة عام 2011 ب نصف مليار دولار دفعة واحدة، لم ينفق عُشر هذا المبلغ لتطوير علاج لفيروس سي ولم تقم أي شركة
منها بتأسيس مشفى للعلاجات التجريبية ولم تحاول أي منها تحويل قطاع البحوث
والتطوير لديها إلى قسم مستقل بتطوير الأدوية الجديدة، والأدهى إن رقم صادراتها
مجتمعة لا يزيد عما تُصدِّره نظيرتها السورية التي لا تملك عُشر ما تملكه من إمكانات
وسيولة ورؤوس أموال وحرية حركة واسعة.
يعلم القاصي والداني إن هجرة الأطباء
الخريجين في مصر وصلت إلى تقديرات قياسية في خطورتها، فطبقا لتصريح لوزيرة الصحة
عام 2020 لدى اندلاع جائحة كوفيد أن الوزارة تسعى إلى تعيين أطباء جدد لكنها لا تجد وأن أغلبية الأطباء
الشباب هم خارج البلاد وهذا و السبب في وفاة عدد هائل من الأطباء خلال الجائحة
فجميعهم في مستشفيات الوزارة فوق الخمسين سنة عمرا، ويقفون في أقسام الاستقبال
للتعامل مع حالات الوباء. إن المستشفى الوحيد المعد ليكون مركزا للتجارب
الاكلينيكية هو معهد البحوث الطبية ومستشفاه بالاسكندرية فقد صمم لذلك منذ عام 1960، لكنه يعاني من الإفلاس ويتسول التبرعات لكنه لا يملك المال لتدشين حملات مدفوعة للفضائيات,
فقط ليستمر بالعمل كمستشفى فلا توجد تجارب اكلينيكية هناك، ولو كانت هناك شركة
مصرية واحدة تطور أدويتها لما وصل المعهد إلي حالته البائسة التي صار عليها. إن
الرأسمالية العربية ليست سيئة بالمعنى الأخلاقي، إنها رأسمالية تابعة وحسب وإذا
كانت بصنها بالغ الثراء في مصر محجمة عن فك دائرة التبعية عن صناعة الدواء العربية
فهل ستفعلها نظيرتها السورية أو الجزائرية؟
لم أتحدث عن العراق، فقبل الغزو كانت صناعة الدواء فيه متأخرة جديا كما ونوعا وهي بعد الغزو بلا وجود تقريبا، وسأؤجل الحديث عنه قليلا
في مصر كانت الطبقة بوجودها في جميع المبادرات والمفاوضات التجارية حول الاتفاقيات الخاصة بالملكية الفكرية أو إتاحية الدواء
تحرص على ضمان نصيبها من التوكيلات أو عند انتقال ملفات الدواء للإتاحة، و هي تسعد
تماما بتكبيل وغل يد الأمة علميا وتكنولوجيا طالما ضمنت من رب السوق العالمية حصة
من التصنيع الوكالي. إن بحثا صغيرا ومسحا في جميع الشركات الدوائية العاملة في مصر
أجنبية ومحلية لن يعثر على مسمى لوظيفة باحث أو عالم أو مطور ويقتصر وجود حملة
الدكتوراه في هذه الشركات على المناصب القيادية العليا إما كرشي لضمان مصالح
الشركات أو للوجاهة وضمن علاقات الطبقة الوسطى وتسللها الطبيعي صعودا في هذه الكيانات,
إنما كمناصب إدارية ومالية و دون أدنى علاقة بتطوير أو بحوث فعلية. ومع ذلك فقد
طالبت تلك الطبقة عبر جميع ممثليها في ندوة الجامعة الأمريكية عن حق إتاحة الدواء
لدى اندلاع جائحة كورونا مطالبة بتحمل المحتكرين المسؤولية الأخلاقية وتوزيع حصة
من الإنتاج الوكالي عليهم، مرفقة ذلك بمطالبة الدولة المصرية بتخفيض الضرائب على
شركاتهم حتي يمكنهم التوسع والتمدد أكثر فأكثر (2).
وللحديث بقية
1-Medicine, Conflict and Survival, (18): 249-257. 2002
2-من يملك الدواء في زمن الوباء- هبة ونيس- مجلة حلولللسياسات البديلة- 14أبريل 2020