بين المماليك وآل عثمان حول مسألة توحيد العالم ..الإسلامي

مصر المركزية وتركيا الحدودية

ياسر شعبان


في بدايات القرن الثالث عشر وجد المماليك أنفسهم "وهم جماعة عسكرية تم تربيتها وهندستها  في القاهرة  بداية من  الملك الصالح أيوب  بشكل منظم لتحترف الفنون القتالية والعسكرية" أمام  مسؤلية مواجهة مهمات العالم الإسلامي الاستراتيجية انطلاقا من مصر  وذلك في خضم اجتياح المغول  لكل المشرق الإسلامي من حدود دولة خوارزم مع دولة جنكيز خان الصاعدة حتى اقتحام بغداد واسقاط الخلافة العباسية القيادة الروحية للمسلمين  ووصولهم لعين جالوت أقصى موضع بلغه المغول توغلاً في العالم الإسلامي أي قرابة ال 5000كم من الزحف المخرب في ديار الإسلام  .

كان هذا السيل المغولي يتدفق بلا أي أمل في كسر حدته في نفس اللحظة التاريخية التي يتعرض فيها المشرق العربي وقتها لأضخم حمله صليبية تستهدف أكبر دولة فيه  فقد هاجم لويس التاسع ب 80 ألف جندي فرنجي دمياط بغرض غزو مصر وبتر وجودها الثقيل الذي أرهق الوجود الصليبي في الشام .

كان على المماليك مواجهة تلك التحديات بالغة الضخامة وكان عليهم أن يقدموا استجابات استثنائية والتي ستمثل بعد ذلك الركن المتين لشرعيتهم على مدار  قرنين ونصف من الزمان..

كان عليهم مبدئيا مواجهة الغزو الصليبي الفرنسي وتحقق ذلك في معركتي المنصورة وفارسكور وتم جلاء القوات الغازية 1250م  ثم مواجهة الاجتياح المغولي في موقعة عين جالوت وسحقه عام 1260م ثم أخذوا في معالجة تبعات انهيار الخلافة العباسية في بغداد  فأعاد بيبرس إحياء الخلافة العباسية باعتبارها القيادة الروحية والدينية والشرعية .. ومحاولة للملمت جسد الخلافة المتشظي ضم الحجاز  للسيطرة على الأراضي المقدسة وضم اليمن  للسيطرة على طريق البحر الاحمر التجاري الذي صار رئيسيًا بعد تخريب المغول للطريق البري الواصل بين آسيا وأوروبا.. وأضحت هذه البلاد بِمُقتضى التقليد الذي منحهُ الخليفة العبَّاسي المُستنصر لِلظاهر بيبرس داخلة في نطاق الحُكم المملوكي. وقد جاء في هذا التقليد: «..وَقَد قَلَّدَكَ الدِّيَار المِصرِيَّة والبِلَاد الشَّامِيَّة والدِيَار بِكرِيَّة والحِجَازِيَّة واليَمَنِيَّة والفُرَاتِيَّة وَمَا يَتَجَدَّد مِنَ الفُتُوحَاتِ غَورًا وَنَجدًا» وقد مثل هذا التقليد رسم عام للاستراتيجية الخارجية للدولة المصرية وقتها ..

بعد إحياء الخِلافة العبَّاسيَّة، وتوطيد أركان الدولة المملوكيَّة، وإنزال الهزيمة القاسية بِالمغول  كانت تحديات تصفية الوجود الصليبي ومقاومة المحاولات المغولية المتكررة لغزو مصر هما ركني الاستراتيجية العامة للدولة المصرية .

_مهمة تصفية الوجود الصليبي:
بعد الانتصار الكبير في المنصورة وفارسكور وأسر لويس التاسع 1250م ثم موقعة عين جالوت التي رمت الخطر المغولي خلف الفرات وجه بيبرس  سنة 1266م حملةً كُبرى ضدَّ أرمينية الصُغرى وأنزل بها  هزيمة كُبرى قُرب دربساك ثم استرجع أنطاكية في سنة 1268م وفي سنة 1289م استعاد خليفته  السلطان قلاوون طرابلس وفي سنة 1291م استعاد ابنه الأشرف خليل أخر معاقلهم في عكا منهيًا الوجود الصليبي تمامًا.

وفي عهد  برسباي تم القضاء على خطر القرصنة الصليبية المنطلقة من قبرص بعد أن غزاها ثلاث مرات ثم حاول جقمق فتح رودس لكنه فشل .

_مهمة القضاء على الخطر المغولي :
بدأت مع الانتصار في موقعة عين جالوت 1260م بقيادة الملك المظفر قطز حيث شكلت تلك المعركة المواجهة الأولى ثم كانت المواجهة الثانية في سنة 1277م حيث سحق بيبرس ِالمغول  ومن حالفهم من السلاجقة في موقعة الأبلستين قرب قيسارية .

معركة حمص الثانية 1281م  المواجهة الثالثة حيث التقى السلطان قلاوون بجيش  مغول  إيلخانة فارس و انتهت المعركه بهزيمه كبيرة للمغول .

ثم واجه المماليك في عهد الناصر محمد هجمة شرسة أخرى من مغول فارس بزعامة محمود غازان وفي موقعة مرج الأصفر 1302م حلت هزيمة ساحقة بهم
وكانت تلك المعركة هي رابع مواجهة شاملة مع المغول

ثم كانت هناك مواجهة رابعة وأخيرة في عهد السلطان فرج بن برقوق خلال اجتياح تيمور لنك  ورغم أن المناوشات الأولى كانت لصالح المماليك إلا أن الاضطرابات في الجيش المملوكي والتمرد الداخلي أدى لانسحاب الجيش المملوكي وترك الشام لقدره وكانت الهجمه عنيفة لدرجة تحطيم الدولة العثمانية الناشئة في معركة أنقرة وأسر السلطان بايزيد الذي مات منتحرا لكن خطر دولة تيمور انتهى  بمجرد موته ..ولم تواجه الدولة المصرية في عهد المماليك الخطر المغولي مرة أخرى

_ مهمة لملمت كيان الخلافة المتشظي :
بدأت مع إحياء الخلافة في القاهرة ثم ضم الحجاز واليمن ثم تحرير الشام من الوجود الصليبي وضمه للسلطنة المملوكية ثم اكتفوا بدعم إمارات حدودية لتشكل حاجز بين التوسع العثماني وبين سلطنتهم ..

ولم يتكون خلف فكرة توحيد العالم الإسلامي أي دافع   يجبرهم على تحقيقه وارتضوا بما تدره عليهم تجارة الترانزيت من أموال طائلة وأخذت الصناعة والزراعة في التدهور  في القسم الثاني من سلطنتهم لأسباب كثيرة لا يتسع المجال لتفصيلها لكن أهمها نظام الإقطاع العسكري المركزي وإهمال الصناعة في مقابل تجارة الترانزيت للبضائع الصينية والهندية  .. وكانت تلك المهمة التي فشلوا في استكمالها و هي توحيد العالم الإسلامي هي من أهم عوامل القضاء عليهم والتي ظلت مطروحة على جدول أعمال المنطقة  تنادي على من يستطيعها حتى اقتنصها آل عثمان وكانت تلك مهمة عامة تخص الاستراتيجية الكلية للمنطقة .

.وكانت هناك مهمة أخرى تخص الاستراتيجية العامة لمصر كجغرافيا وهو فتح الجنوب من بلاد النوبة وما يليها من بلاد وادي النيل وصبغها بالصبغة العربية الإسلامية .. والتي نجحوا فيها جزئيا عندما فتحوا بلاد النوبة حيث أرسل السُلطان الناصر محمد حملتين إليها بين سنتيّ 1315 و1316م ففتحها وأقام عليها أوَّل ملكٍ مُسلمٍ من أهلها هو عبدُ الله برشنبو لتبدأ في اتخاذ طابعها العربي الإسلامي. لكن المماليك لم يتطلعوا إلى أبعد من ذلك ..

أما عن  آل عثمان فهم قبيلة حربية  قذفت بهم الاضطرابات من وسط آسيا إلى غرب آسيا ويرجع  احترافهم الفنون العسكري نظراً لنمط الحياة الذي يميز القبائل المترحلة  عامة  و بدايةً شكلت هذه القبيلة إمارة حُدود تُركمانيَّة تعمل في خدمة سلطنة سلاجقة الروم ترد الغارات البيزنطيَّة عنها، وبعد سُقُوط السلطنة سالفة الذِكر استقلَّت الإمارات التُركمانيَّة التابعة لها، بما فيها الإمارة العُثمانيَّة، التي قُدِّر لها أن تبتلع سائر الإمارات بِمُرور الوقت ..

في تلك الفترة امتازت العلاقات العُثمانيَّة المملوكيَّة بِالود والتقارب الشديدين، مُنذُ أن قامت الدولة العُثمانيَّة وأخذت على عاتقها فتح بلاد البلقان ، وخطب السلاطين العُثمانيين ودَّ السلاطين المماليك باعتبارهم زُعماء العالم الإسلامي والقائمين على حماية الخِلافة الإسلاميَّة، واعترفوا لهم بِالأولويَّة السياسيَّة والدينيَّة، بينما خطَّطوا لِأنفُسهم دورًا مُتواضعًا هو دور البكوات حُماة حُدود ديار الإسلام. هذا وقد ظلَّ المماليك ينظرون إلى تحرُّكات العُثمانيين الجهاديَّة كجُزءٍ من المسألة الإسلاميَّة العامَّة. ولمَّا فتح العُثمانيُّون القُسطنطينيَّة سنة 1453م، اعتبر المماليك ذلك نصرًا عظيمًا لِعامَّة المُسلمين،واحتُفل في القاهرة بِهذا الحدث الجلل احتفالًا رائعًا، فزُينت الأسواق والحارات، وأوقدت الشُمُوع في الشوارع والمآذن، ودُقَّت البشائر السُلطانيَّة في قلعة الجبل عدَّة أيَّام، وعمَّ السُكَّان الفرح. وفي نفس الوقت شكَّل فتحُ القُسطنطينيَّة الحد النهائي لِلعلاقات الوديَّة بين المماليك والعُثمانيين

ثم بدأت المواجهة المحتومة حيث جرت بين العُثمانيين والمماليك بضعة وقعات ما بين سنتيّ 1483 و1491م نتيجة الخِلافات الحُدوديَّة كانت الغلبة فيها للمماليك ، وانتهت بِعقد اتفاقيَّة سلام بين الدولتين بِوساطة السُلطان الحفصي أبي يحيى زكريَّاء بن يحيى

وعندما ظهرت الدولة الصفوية مهددة بفتح باب الصراع في المنطقة على أساس مذهبي كان على مصر زعيمة أهل السنة في ذلك الوقت أن تقوم بمهماتها الجديدة لكن الخطر البرتغالي الذي ظهر فجأة بعد اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح والمواجهة الفاشلة معه على ميدان  المحيط الهندي في معركة ديو البحرية والتي أدت لانسحاب الأسطول المصري منه   وبوار تجارة مصر على إثر ذلك  ..وغرقها في الاضطرابات الداخلية  وارتفاع الأسعار وضيق الأحوال ..جعلت مصر تنسحب تدريجيا مخلفة فراغ أخذ يملؤه آل عثمان فبدل من أن تهاجم مصر الدولة الصفوية وتنتزع منها العراق والجزيرة الفراتية لتقطع الطريق على طموحات آل عثمان في تطويق شمال السلطنة المصرية  وبدل ذلك وقفت تتفرج وتنتظر أن يستنزف الطرفان بعضهما فما كان إلا أن فاجأ سليم الأول المنطقة بانتصار سريع ساحق على الصفويين في معركة جالديران واستدار ليكمل ضربته الثانية في مرج دابق  ويهزم الغوري سلطان مصر مقر الخلافة العباسية ليتلوها بهزيمة طومان باي في الريدانية لينهي قيادة القاهرة للعالم الإسلامي  وربما لو كان سليم الأول قد أصر على تنفيذ قراره ولم يرضخ للإنكشارية بنقل عاصمة دولته من اسطنبول للقاهرة لتغير كثير من تاريخ المنطقة ..

إن سلطنة آل عثمان كانت سلطنة ثغور لم تكن لتتمدد لو لم تنسحب مصر السلطنة المركزية إلا بسبب عجزها عن تحقيق المهمة الاستراتيجية الكبرى وهي توحيد شظايا الخلافة العباسية تحت زعامة القاهرة ذلك لا يعني أننا ننكر الأسباب الخاصة بطبيعة الإقطاع العسكري المركزي أو مضار الاعتماد على عوائد تجارة الترانزيت فقط كركيزة أساسية في الاقتصاد على ضعف الدولة المملوكية عن تحقيق مهماتها.

ما يعني أن الفراغ الذي خلفته مصر المملوكية ملأته تركيا العثمانية هذه هي طبيعة العلاقة والمعادلة في المنطقة وقتها فلم يتجنى العثمانيون بقدر ما تراخى المماليك ولم يكن ليستطيعوا التوغل في المنطقة لولا أن الساحة كانت مهيئة لتوغلهم ..

كانت تلك المهمة وهي توحيد هذا التشظي والذي سبق الاجتياح المغولي كان دائما مهمة ملقاه على جدول أعمال المنطقة حاول البويهيون وحاول  السلاجقة فيه وحاول الفاطميون وحاول الأيوبيون وحاول الموحدون في المغرب  وحاول المماليك وحاول آل عثمان بل لعلنا أن نضيف محاولة إليخانية مغول فارس بعد إسلامهم في ضم الشام ومصر أيام محمود غازان أو أيام الدولة التيمورية فقد كان تيمور لنك مسلما أو نضيف توسعات الدولة الصفوية في إيران   لكن ما الفرق بين أن تنطلق حركة التوحيد من القاهرة وانطلاقها من استانبول مثلا أو تبريز ما الفرق الجوهري الذي يجعلنا نرجح إنطلاقة عن الأخرى ..

إن ما يجعلنا نفاضل هي الطابع الذي يحكم الدولة والاتجاه العام للثقافة التي تحكم وتسود القاهرة عندما توحد فهي عربية بإدارتها ومؤسساتها وجيشها وآدابها وعلومها وفنونها فالقاهرة هي مركز الحضارة العربية حيث العلوم والآداب والإدارة بالعربية  لكن الانطلاق من استانبول التي تستخدم التركية تؤدي إلى دولة مصابة بالفصام لغة أغلب سكانها العربية لكن إدارتها وحكومتها وسجلاتها بالتركية التوحيد من استانبول حجز عن الأتراك فرصة التعريب والاندماج النهائي في جسد الدولة العربية خاصة أنهم ليسوا كالفرس لهم سابقة حضارية قديمة  بل هم قبائل رحل لا ماضي لهم ولا تراث حضاري وكان من الممكن امتصاصهم بسهولة .. إن التوحيد السياسي عندما أُنجز على يد استانبول جاء بتبعات مدمرة على جسد الدولة الموحدة الوليدة كان من الممكن تداركها لو نقل سليم  مقر حكمه للقاهرة  كما فعل المعز لدين الله الفاطمي قبله ب600 عام عندما انتقل بمقر حكمه من المغرب إلى مصر .. إن المفاضلة لم تكن بين المماليك وآل عثمان فكلاهما يحكم بروح بربرية لكن المفاضلة كانت بين استانبول التركية الجاهلة البربرية المتواضعة الجمال وبين القاهرة العربية المتعلمة المتحضرة عميقة الجمال.


لم تستطع استانبول بطبيعة الحال أن تُتَرّك القاهرة لكنها حرمت  نفسها من التعريب واضمحلت القاهرة القلب النابض للمشرق  وهذا ليس تجني أو رأي انفعالي فعندما الغيت الخلافة 1922 بعد هزيمة الأتراك في الحرب العالمية الأولي صرح سعيد النورسي صاحب رسائل النور وهو من شيوخ الإسلام الكبار في تركيا أن أكبر خطأ ارتكبته الدولة العثمانية أنها لم تتعرب ..

كانت العصور الوسطي ومشارف العصر الحديث فرصة لتشكل دولة كبرى تنصهر فيها القوميات الصغرى والفرعية تحت لواء الثقافة العربية ومركزية القاهرة السياسية الحضارية لتدخل المنطقة العصر الحديث بمساحة جغرافية موحدة عصية على التفتيت قابلة للتعاطي مع العصر الحديث ومفرداته كما دخلته الصين بحجمها الماموثي .

إن هزيمة المماليك في مرج دابق كان هزيمة لمستقبل المنطقة كلها كانت هزيمة للمهزومين وللمنتصرين على السواء ..

ولربما حددت تلك المهمة الجوهرية التي كانت في مواجهة دولة المماليك مع  الزمن جوهر الاستراتيجية المصرية المفترضة من وقتها وحتى الآن وكلما استعادت  مصر  وعيها الذاتي بجغرافيتها عبر إرادة سياسية حرة كلما انطلقت في تنفيذ هذه المهمة الناقصة وهي مد شرايين التواصل بين الجسد والرأس   ..إن دور مصر الوحدوي هو من ميراث  مهمات عصر المماليك واضطراباته وصراعاته فكثيرا من مهماتنا الاستراتيجية تعود جذورها لذلك العصر..

..حاول إنجازه كل من محمد علي وابنه إبراهيم عبر توسعاتهم وإصلاحاتهم واستعادة مركزية مصر في دولة المشرق الكبرى ... ثم حاول إسماعيل عندما أوصل سيطرة القاهرة حتى منابع النيل.... ثم حاول جمال عبد الناصر إبان تجربته الوحدوية مع سوريا ثم ميثاق طرابلس الذي كان يمهد للوحدة بين ليبيا والسودان ومصر ..

فعندما كانت مصر دولة مركزية في المنطقة خلال فترة المد القومي كانت تركيا دولة هامشية على أطراف العالم العربي وهامشية على أطراف حلف الناتو  وعندما انسحبت مصر بعد موت ناصر  وتخلت عن مهماتها  على مدار 40سنة حاولت تركيا ملئ الفراغ عبر جماعات الاخوان.. لكن هذه المرة ليس في إطار تناقضات المنطقة الداخلية وانطلاقا من مصالحها ذاتها لكن في إطار تناقضات المراكز الرأسمالية وانطلاقا من مصالح خارجية عن المنطقة ..

وتظل تلك المهمة حتى الآن ملقاة على أجندة أعمال المنطقة منتظرة من يتمها على الشكل الملائم الذي يستجيب لضرورات و تناقضات العصر  ..