الكوميديا السوداء للرأسمالية 

د.موفق محادين

 

broken image

 

بخلاف الكوميديا الإلهية عند دانتي، والكوميديا الإنسانية عندبلزاك، ثمة كوميديا أخرى تلائم العصر الإمبريالي، والتي يمكن أن نطلق عليها الكوميديا السوداء لهذا العصر.

في قول للفيلسوف الألماني هيغل، وكذلك ماركس حول دورة التاريخبين الحقب المختلفة (إذا ما أعاد التاريخ نفسه في المرة الثانية، فعلى شكل كوميديا) ولعلنا اليوم في قلب المرة الثانية من تاريخ الرأسمالية، ليس فقط من خلال الأعراض والصور الفرانكشتانية للزعماء التي تجمع بين البلاهة والقبح والتوحش، فما هو أعمق هو جوهر الرأسمالية وتكوينها البنيوي.

وفي الحقيقة، فإن حركة المال بين التراجيديا والكوميديا، سابقةعلى الرأسمالية المعاصرة وتعود إلى مرحلة الرق والطور الأول منه عند الإغريق.

فبعد أزمنة التراجيديا والتراكم الأول للمال، دخل الإغريق فيالفكاهة السوداء كما عبر عنها أرستوفانس في مسرحية الضفادع، التي تتحدث عن عالم الموتى في زمن الصراع على المال والمحاجر.

وسنلاحظ أيضاً أن الكوميديا السوداء وآدابها المتأخرة،الروائية والمسرحية والسينمائية كانت ملازمة لكل دورات الانحطاط كشكل من أشكال الاحتجاج عليها:

- في زمن دانتي والصراع على ذهب وبلاط فلورنسا لم تكن كوميديادانتي في الأعالي (الجحيم – المطهر والفردوس) صورة سابقة على فرويد (الخطيئة والعقاب والندم) بل كانت كوميديا معرفية بقدر ما كانت تراجيديا سياسية لأزمنة البنادقة (تجار ونبلاء البندقية).

- في فرنسا، وبعد تراجيديا الانحطاط الإقطاعي وبدايات الميركنتيليةالتجارية، قدم موليير مسرحية البخيل (الدميم كوجه آخر للدمامة المالية).

- في إسبانيا: كان "سرفانتس" يؤرخ لانحطاط العصرالباروكي الإقطاعي كله، عبر روايته الساخرة، دون كيخوت.

- في ألمانيا وحوض الراين، حيث تأخرت الرأسمالية، تقدمتالكوميديا على يد هايني، وأكثر الكتابة رزانة غوته.

- ولكن لا حقبة للكوميديا السوداء توازي الرأسمالية الأنجلوساكسونية البريطانية – الأمريكية، التي تقتضي التذكير بجذرها المالثوسي وبلحظتها التراجيدية التي ظهرت مجدداً في تجسداتها الكوميدية مع الكورونا.

في رواية أصبحت فيلماً هي تمرد على ظهر السفينة بونتي للكاتبوالقبطان البحري ويليان بلاي، كشفت الرواية جوهر الرأسمالية منذ ميلادها الأول ممثلاً بأولوية البضاعة (ثمار البيضاوية، ضرورية لغذاء العبيد في المزارع (الرأسمالية) على حياة البشر، وذلك بعد أن عصفت الأنواء بالسفينة، ولم يعد الماء يكفي للبحارة والثمار المذكورة. ومثلها رواية (تحت القبة) التي نقلت إلى الشاشة أيضاً.

لم تكن تلك مجرد نصوص روائية أو مشاهد سينمائية من بطولةمارلون براندو، بل تجليات لتراجيديا في طريقها إلى زمن الكوميديا السوداء الحالية.

لنتابع ذلك مرتين، الأولى مع هكسلي وشارلي شابلن والثانية بينبورصة لندن وبورصة نيويورك.

في رواية هكسلي قبل قرن تقريباً، هي (عالم طريف) ثمة بعدتراجيدي – كوميدي مركب، عبر توقعات بتطور علمي مذهل ينطوي على الكوميديا في الوقت نفسه : بدل الإنجاب الطبيعي بين البشر ثمة فقاسات تذكر بمزارع الدجاج الأبيض.

وفي أعمال شابلن كلها (الأزمنة الحديثة، أضواء المدينة، مدينةنيويورك) كأنه يتحدث الآن، ولم يكن بقبعته وعصاه يسخر من العلم، بل من أجله في المرة الثانية، حيث المشهد الراهن للوباء الذي يلبي حاجة الرأسمالية وفق نظرية "مالثوس" ويأخذ في طريقه أحباء من عالمها.