القرار 181 نموذجاًلنهج المساومة المدونة
القرار 181 نموذجاًلنهج المساومة المدونة
الكاتبة والباحثة / رند وهبة
سؤال ثقيل على ضمير طفل
سأبدأ من المدرسة، حين تعرفت لأول مرة على القرار 181، كطفل غير مسيس بدون مواقف مسبقة وبعد شرح مساحة الأراضي الممنوحة للفلسطينيين بحسب القرار مقارنة بما هو متاح حالياً، بدأ السؤال الموجه لنا في نهاية الدرس عن رأينا بقرار مقاطعة اللجنة العربية العليا للجنة الأممية ان كان خاطئاً؟ وإن كان علينا القبول بالتقسيم وكسب مساحة أكبر من الأراضي وتجنب الصراع…بدا السؤال ثقيلاً على الوعي والضمير، والمشكلة لا تكمن في ثقله فحسب، بل تكمن بأنه يطوع وعينا الغض لقبول فكرة المساومة وقلب القضية من قضية حق وباطل الى قضية مساحة تزيد أو تنقص، كم كان السؤال خبيثاً يومها ولا زال.
عن الوطن والمساحة والموقع
قال فايز الصايغ في 1965: فيما كانت آسيا وأفريقيا تتحرران من الاستعمار الأوروبي زرع الأوروبيون استعمارا إحلالياً في قطعة مفتاحية من العالم في الجسر البري بين القارتين لضمان الحفاظ على الهيمنة. الا أن هذا الكيان محكوم بالتوسع ليس فقط من منطلق توراتي لهذه الجماعة الدينية الهاربة من الاضطهاد الاوروبي* (من الفرات الى النيل) بل من المحيط الى الخليج من منطلق المصالح الاستعمارية.
ويمكن اعادة فكرة الكيان المؤقت لحقبات مختلفة، نابليون في نهاية القرن الثامن عشر، اللورد بالمرستون في القرن التالي والهدف السيطرة على خطوط التجارة الدولية القادمة من آسيا، والحقيقة أن هذه المنطقة كانت مسرح صناعة وتدمير الامبراطوريات لعصور وأهم المعارك الحاسمة(من قادش الى مرج دابق وغيرها) حصلت هنا في سوريا الطبيعية، ويمكن اعادة فكرة استعمار فلسطين للحروب الصليبية أو حتى العصر الروماني، الا أن الفكرة الاستعمارية الحديثة هي فكرة حاملة الطائرات الكبرى، أي الاستحواذ على قطعة صغيرة من العالم كقاعدة للعدوان الاقليمي، وربما يكون العدوان الثلاثي الذي شارك به العدو بشكل شبه فوري بعد نشأته أكبر دليل على هذه الوظيفية.
اذا بالنسبة للمستعمر فأرضنا قطعة عقار، وبالنسبة لتجار العقارات فقيمة الأرض تأتي من اهمية الموقع، فالقاعدة الذهبية لديهم تقول Location Location Location، وهنا مكمن الفرق بينانتماء المستعِمر وصاحب الأرض، الانتماء بالنسبة للأول ملكية وامتيازات واحتكار وإقصاء أي ابادة للآخر بمعنى أنه يعتبر أن الأرض تنتمي له، بينما صاحب الأرض يعرف أن الأرض تنتمي له ولكن الأهم بالنسبة له أنه هو ينتمي لها فهو يبذل دمه رخيصاً لأجلها، وأن علاقته معها وجودية بغض النظر عن مميزات الموقع ولا افضليته ومسألة الأرض لا تقبل القسمة أو التقسيم والمساومة، ولهذا الفرق عمق وأبعاد جذريين في الصراع التحرري سأعود اليها لاحقاً.
*هناك كتاب (لاليكسي دي توكفيل) حول استعمار الجزائر ويتحدث به بضرورة تقليد النموذج الامريكي في الاستعمار الإحلالي لضمان نجاح التجربة الاستعمارية، وبالرغم من المحاولات المستميتة من قبل الفرنسيين الا أن تجربتهم باءت بالفشل، بسبب المقاومة الجزائرية ولكن ربما أيضاً لأنهم لم يستطيعوا توظيف تقنية استعمارية انكلوسكسونية كلاسيكية ألا وهي توظيف جماعية دينية مضطهدة في اوروبا لتشرع في العملية الاستعمارية بتعصب وحيوية ومنها جماعات مثل البيوريتان والافريكاناز والآميش والمينونايت وغيرهم الكثيرون.
عن حيثيات القرار، المجتمع الدولي هو المشكلة
لفهم القرار علينا ان نفهم من أصدره وهي الأمم المتحدة، ولفهمها يجب أن نبدأ من مجلس العلاقات الخارجة CFR، فبين الحربين العالميتين، بدأ مجلس العلاقات الخارجية بالتشكل،وكان ممولا بشكل رئيس من أغنياء الساحل الشرقي في أميركا روكفيلر وحيتان وول ستريت، هذا المجلس كان أداتهم في تحقيق مصالحهم التجارية عبر العالم على مستويات ثلاثة رئيسية: التخطيط والدراسات، التنفيذ، وتشكيل الرأي العام. وفيما يهم التنفيذ فرجالات المجلس هم من أسسوا واداروا وكالة الاستخبارات المركزية وسيطروا على وزارة الخارجية وأكثر من ذلك فخلال الحرب العالمية الثانية كان الرئيس روزفلت قد اعتمد مجموعة منتخبة منهم كاستشاري بعد الحرب post war advisors الخاصين به والذين كانوا قد قرروا أن على الولايات المتحدة السيطرة على ما سموه المنطقة الكبرى Grand area، والأهم أن النتيجة المتوخاة من الحرب هي وراثة المستعمرات الأوروبية وعلى رأسها المستعمرات البريطانية.
ولضمان هذه السيطرة صرح أحد المسؤولين Isaiah Bowman في المجلس أن على الولايات المتحدة السيطرة على هذه المنطقة الكبرى بالقوة لضمان الأمن، إلا أن على أميركا تجنب الصورة التقليدية للاستعمار ولذلك يجب ممارسة هذه القوة من خلال جسم داخل الأمم المتحدة. علماً ان من كتب ميثاق الأمم المتحدة هو مجلس العلاقات الخارجية….ما أحاول قوله هو أن هذه هي الأمم المتحدة وهذا هو ما يسمى بالمجتمع الدولي والأحرى أن يسمى بنادي الاستعمار. فهم كانوا اعدائنا منذ البداية By design كما يقولون، صممت الأمم المتحدة لتكون يد الاستعمار الخفية. بالنسبة لأميركا شكلت الامم المتحدة ما يسمى بعملية التحضر للمنافسين الدوليين، اذ وضعت اطار تنافس "حضاري" يخصي المنافسين عسكرياً وهو لعبة بروتوكول واتيكيت تلهي بها الاخرين بينما تتحكم هي بقوانينها، وهذا هو السبب الاساس لعدم انضمام الامريكيين لعصبة الامم سابقاً (من قبل نفس النخبة التي شكلت مجلس العلاقات الخارجية) لانهم يريدون وضع القوانين لا تطبيقها.
وهنا سؤال يطرح نفسه، هل تخلت بريطانيا عن فلسطين لأميركا طواعية؟ أم أنها أوفت بوعدها ليهود العالم من باب الإخلاص وأمانة العهود؟
ما حصل هو أن الانتخابات الأمريكية خلال الحرب اعتمدت بشكل كبير على خمس ولايات يتركز فيها الصوت اليهودي بقوة، ولكسب هذا الصوت كان من الضروري المزاودة على دعم الصهيونية أكثر، في نفس الوقت كانت بريطانيا تتلكأ في تنفيذ وعد بلفور بشكل يمنح المستعمرين كياناً مستقلاً لأنها كانت تحاول ضمان اعتماده الجنيني لتحقيق مصالحها في المنطقة، وهكذا تكاملت العناصر والدوافع لكي يقوم الأمريكيون بدعم عصابات شتيرن و الهاغاناه والأرغون لشن تفجيرات وهجمات قاتلة ضد البريطانيين. وكان تفجير الملك داوود أكبرها، ولهذا السبب لجأت بريطانيا الى الأمم المتحدة لحل الصراع بينها وبين الصهيونية التي خلقتها، وليس بينها وبين العرب كما يريدون لنا أن نظن.
هذا الصراع يمكن قرائته بوضوح بتقرير اللجنة التي صاغت توصيات التقسيم(أغلب اعضاء اللجنة من كيانات ودول استعمارية)، الملف المكون من ما يقارب السبعين صفحة، قلما يذكر العرب وحقوقهم، وإذا ما ذكروا عادة ما يرفقون بصفات رجعية ومهينة وتعيب عليهم فقرهم ونمط عيشهم، بالمقابل هناك احتفال بعبقرية المهاجرين الأوروبيين ونشاطهم التجاري والصناعي والأهم الزراعي، وأنهم جعلوا من الصحراء تزهر، وفي التقرير عبارات متعددة تدل على أن واجب اللجنة هو إيجاد الطريقة المثلى للوفاء بوعد بلفور، وتأمين وطن قومي لليهود، وان كان هذا التعريف مستجداً ومبهماً وغير مسبوق في الشرعة الدولية، الا أن اللجنة وجدت أن من واجبها ايجاد هذا الوطن، أما بالنسبة للعرب فهي ستحاول تأمين مساحة حياة مقبولة.
وعند الحديث عن المساحة مجدداً، طبعا المساومين والبياعون تهمهم خارطة القرار 181 لأنها تمثل نموذج مثالي عن فرص السلام الضائعة، والحقيقة أن القرار في طياته لم يحمل أي بنود تنفيذية أو لجان على الأرض لتطبيقه، هو كان منذ البداية مدخل لإعطاء شرعية لهذا الوطن القومي وحسب، ولم تكن المساحة الموعودة للعرب الا وهماً لإخراج القضية من الحقوق الى النزاع والمساومة على المساحة…وهذا كان له أذرع على الأرض من نخب عميلة تروج للصفقة على أنها مكسب وطني.
وهكذا يخلق صراع داخلي وتنتقل المشكلة بين العرب والاستعمار الى مشكلة بين العرب أنفسهم، هذا القرار لم يكن بذرة كامب ديفيد ووادي عربة واوسلو فحسب، بل كما سأجادل تالي، كان بذرة مشاريع التدمير و الاحتراق الذاتي.
الولايات ال13 والشرق المتوحش
عام 1868، أبرمت الولايات المتحدة أول اتفاقية تعترف بها بحدود دولة شرعية للسكان الأصليين، وهذه الاتفاقية مع شعب اللاكوتا كان من المفروض أن تمثل دولة بمساحة ربع الولايات المتحدة الأمريكية، والسبب وراء إبرام هذه الاتفاقية الاستثنائية هو مدد الانتصارات العسكرية لشعب اللاكوتا، وكان من الضروري انتظار القطار العابر للقارة ليصل الى المنطقة لتأمين جيش كبير لهزيمته مقاومة اللاكوتا، وفعلا، ما أن تم مد القطار عادت الحملات الاستعمارية والنتيجة كانت ما يعرف اليوم بمجزرة "ووندد ني"، التي لم ينج منها إلا طفلة ترضع من امها القتيلة في الثلج.
التقاطعات بين فلسطين والشعوب الأصلية في أميركا لا تحصى، بالنهاية المستعمر الاوروبي نظر لهم بأنهم الكنعانيون الجدد بينما نظروا إلى أنفسهم كإسرائيليين جدد وشرعوا لأنفسهم لاهوت الابادة، وتبدو فلسطين هنا شبيهة بالولايات ال13 الصغيرة الأولى على الساحل الشرقي من القارة، تطلب الأمر حوالي القرنين من الابادة من المستعمرين للسيطرة عليهم، وبعدها بعدما تمكنوا من وضع قاعدة اساسية متينة وبناء دولة على شريط ساحلي ضيق انطلقت حملات الإبادة غربا بسرعة غير مسبوقة فيما عرف بالغرب المتوحش، والتهمت بقية القارة خلال عقود قليلة…برأيي هنا أن فلسطين هي الولايات ال13 لكن على الساحل الغربي، وما أن تمكن الاستعمار من إيجاد دولة بدأت جبهة الشرق المتوحش بالمقابل بنهش أحشائنا من الصومال الى السودان الى اليمن والجزائر والعراق وسوريا وليبيا…ولن تنتهي هذه الجبهة إلا بقلع الولايات الثلاثة عشرة الأولى. الفلسطيني هنا اذا هو خط الدفاع الأول والتضامن مع فلسطين ليس الا تضامناً مع الذات ومقاومة المشروع الصهيوني هي ضرورة وجودية لنا جميعاً، فالمساومة والسلام مع العدو هما مشروعان مترافقان مع مشروع الاحتراق والتدمير الذاتي ان لم تكن كلها مراحل مختلفة للمشروع نفسه. اذ قالها أمل دنقل بشكل شبيه بالنبوءة "إن سهمًا أتاني من الخلف..سوف يجيئك من ألف خلف" فعدوك يأخذ الأمان من شرك بالسلام، ويحول شرك ضد نفسك، أنت الآن في التيه لا تعرف عدوك من صديقك ولا تعرف حتى نفسك وتفتح الباب مواربا لمؤامراته والتحالف بين ابناء البيت الواحد وتحريضهم ضد بعضهم البعض وهذا ما نراه ورأيناه وما جلبته علينا اتفاقيات السلام مع العدو.مجرد أن تتحول القضية من قضية حق الى مساومة ينهار كل شيء وينتصر العدو باختراقك من الداخل.
قال أحد الذين يعملون مع شعب لاكوتا المدمر اليوم عبرة جوهرية لنا نحن العرب أن الفصل الأخير في أي ابادة ناجحة هو حين يرفع المجرم يديه ويقول انظروا الى هؤلاء الوحوش كيف يقتلون بعضهم البعض.
الجبهة النهائية
لم تنته حروب جبهة الغرب المتوحش بالسيطرة على القارة الأمريكية، بل انتهت بالسيطرة على عقل ووعي وقلب ما تبقى من الشعوب الأصلية بسياسة عرفت "اقتل الهندي وحافظ على الرجل"، وبطريقة مشابهة أيضاً عمل العدو الصهيوني، بدأ بالتحالف مع بعض النخب والسياسيين مع الاستيلاء على الاراضي، وثم عمل على تحييد دول الطوق وجيوشها من خلال اتفاقيات السلام مع الأردن ومصر، وثم عمل على تحييد الفصائل خلال اجتياح لبنان واتفاقية اوسلو في مستوى تالي، وبعدها في الانتفاضة الثانية عمل على ابادة الخلايا المقاومة والقيادات، وبنى الجدران وعمل مع دايتون على خلق الفلسطيني الجديد في مستوى أخير، حيث عقل وقلب ووعي الفلسطيني والعربي هو الجبهة النهائية، ظن أنه توجها بصفقة القرن… وما لم يحسب حسابه أن هذه الجبهة خلاقة ولادة وبمجرد أن يتفلت منها عقل أو اثنين تنسف كي الوعي الصهيوني وتفجر الوعي المقاوم، عام 2017 وقف عقيد في الجيش صهيوني في وسط المواجهات المشتعلة في جنين وتسائل أمام الشاشة مال لهؤلاء الاطفال و كأننا لم ننفذ عليهم الاف البرامج (برامج كي الوعي)؟
والاجابة قالها الشهيد باسل الأعرج قبلها بثلاث سنوات، في مرة نزل في مضيف داخل مخيم شاتيلا، وكان هناك ناشطون اجانب منهم فتاة امريكية، وودار الجدل بأنه لماذا تأتين تطالبين الضحية بالسلام؟ اذا كنتي تريدين السلام فعلا لماذا لا توقفين صناعة السلاح في بلدك مثلاً لماذا تأتين لأطفالنا؟ فردت مدافعة بانفعال عن عملها بالمخيم وقالت أنها لا تريد شيئا إلا السلام، فأجابها انتي تظنين أنك تخدعين اطفالنا وتغيرين وعيهم، والحقيقة هي أن هذا الطفل البريء يخدعك عندما يلعب بالبلالين ويرسم الشمس والمنزل بالألوان ويغني معك بينما كل ما يحلم به هو ان يكبر ويحمل السلاح ويقاتل…يقال أن هذه الفتاة رحلت بعد يومين، ليس عن المخيم فحسب بل عن لبنان كله.