"السينما الثالثة" مرة أخرى، وفي الذكرى الثانية لغياب أحد عمالقتها

مالك خوري

لعل مساهمات السينمائي والمنظر الأرجنتيني فيرناندو سولانس النظرية والعملية، تبقى من أهم وأكثر المساهمات الجدية في محاولة طرح بدائل ثورية جدية في وجه واقع الهيمنة البرجوازية في مرحلتها الامبريالية على صناعة وأيديولوجيا الممارسة السينمائية في العالم. وتجربة سولانس هي بلا شك إحدى أهم التجارب الجديرة بالقراءة والتمعن من قبل كل المهتمين بسبل تطوير العمل الثوري في إطار الثقافة السينمائية في عالمنا العربي، وفي كل المجتمعات المناضلة من أجل التحرر الوطني ومن أجل التخلص من نير الهيمنة الامبريالية على شعوبهم.

سولانس، الاشتراكي والثوري المشاكس بامتياز والسياسي المخضرم والناشط المقاوم للفاشيات العسكرية في بلاده وفي أمريكا اللاتينية منذ ستينيات القرن الماضي ثم ضد فاشية نظام كارلوس منعم في الأرجنتين والذي جابه إطلاق الرصاص عليه ست مرات عام 1991، ليقوم من جديد ويستعيد عافية مقاومته السياسية والإبداعية؛ المكرّم والمحتفى به أيقونة سينمائية "غير شكل" والذي فرض نفسه من غير أن يساوم على ماركسيته الثورية في أهم محافل السينما في العالم، ومنها الأكاديمية ومنها مهرجانات السينما التقليدية مثل فينيسيا وكان وموسكو وبرلين، كما في مهرجانات السينما الثورية البديلة (ومهرجان هافانا في كوبا يبقى أهمها تاريخيا)، والمنظر الطليعي لسينما "ثالثة"؛ هذه الشخصية الفذة تمثل معلما أساسيا في تاريخ وتطور الدراسات السينمائية.

منذ ستينيات القرن الماضي، ومع ظهور وأفول تيارات تنادي بأطر مغايرة لقواعد وتوجهات السينما السائدة في العالم، كان هناك على الدوام دورٌ خاص ومتميز لحركات وتوجهات مفصلية ضمن الدول التي عانت تاريخيا من الاستعمار الغربي المباشر في آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، والتي تجد نفسها اليوم تعاني من هيمنة من نوع آخر تتجسد في الاستعمار الجديد غير المباشر ومن قبل نفس القوى التي كانت تفرض نفسها عليه في السابق. في ستينيات ذلك القرن بشكل خاص برزت تيارات نادت بسينما ملتزمة بخصوصية التعبير عن الواقع الذي تعيشه شعوب دول العالم الثالث في مرحلة ما بعد الاستعمار الغربي المباشر وبلغة هذه الشعوب ومن ضمن هواجسها الثقافية والتاريخية. حيث قام العديد من سينمائيي أميركا اللاتينية وآسيا والدول العربية وأفريقيا بمحاولات هامة لتطوير لغات سينمائية جديدة أكثر التصاقا بهموم شعوب ما يدعى بالعالم الثالث.

وبرغم الغنى الكبير لمشواره السينمائي الذي استمر حتى نهايات العقد المنصرم، تبقى مساهمة سولانس التاريخية مع رفيقه أوكتافيو جيتينو في كتابة إعلان "نحو سينما ثالثة" (أفضل ترجمة عربية للإعلان ما تزال تلك التي أعدها الناقد والمترجم المصري الراحل حسين بيومي). وعلى ما أذكر قراءته، فإن أول نقاش جدي في العالم العربي لإعلان "نحو سينما ثالثة" لسولانس وجيتينو جرى عام 1972 في إطار عقد الدورة الأولى لمهرجان دمشق الدولي لسينما الشباب والذي أصبح يعرف فيما بعد بـ "مهرجان دمشق السينمائي الدولي".

والبيان كتب بعد عام فقط من إنجاز السينمائيين لفيلم ملحمي يبقى اليوم بين أهم الأفلام الوثائقية في تاريخ السينما، وذلك بالرغم من مرور حوالي خمسين عاما على صدوره. ففيلم "ساعة الأفران" أو "Hour of the Furnaces"، والذي حققه سولانس وجيتينو عام 1968، يعتبر من أكثر التجارب حضورا في تاريخ وحاضر العمل من أجل رسم الملامح السياسية والنظرية والفنية والإنتاجية والعرضية (من عرض) لسينما ثورية منحازة إلى الطبقة العاملة والفلاحين والفئات المهمشة في دول الأطراف في النظام الرأسمالي الإمبريالي المهيمن عالميا.

إعلان "نحو سينما ثالثة" أتى عام 1969 كتكملة نظرية وسياسية لفيلم "ساعة الأفران"، وهو من أهم وأشهر البيانات الموسعة التي صدرت من قبل واحد أو مجموعة سينمائيين وأكثرها وقعا لجهة محاولة رسم معالم لسينما جديدة في مناطق العالم الواقعة خارج دول "العالم الاول". ويكتسب الإعلان قوته من عمق تفصيله وتحليله وتقييمه للتجربة الثورية العملية على الأرض للمخرجين في خلال إعداد وتصوير وقطع وعرض فيلمهما "ساعة الافران".

وعلى الرغم من أن لقب السينما الثالثة يوحي للوهلة الأولى بأنه يستلهم التعريف القديم لدول العالم الثالث باعتبارها تلك الدول التي لا تتبع، لا إلى "الغرب" ولا لمجموعة "الدول الاشتراكية" بقيادة الاتحاد السوفياتي آنذاك، فإن كلمة "الثالث" في مفهوم إعلان "نحو سينما ثالثة" كانت تختلف جذريا. فسولاناس وجيتينو أرادا من هذا التعبير أن يرصد الحاجة لوضع البذور لسينما جديدة مغايرة في هدفها وفكرها وأسلوبها وإنتاجها وعرضها عن كل من سينما هوليوود (السينما الأولى) أو السينما التقليدية المهيمنة، وكذلك عن السينمات "الفنية" (السينما الثانية) والتي اتسمت بنخبويتها والتي كان يطلق عليها (أو تطلق على نفسها) تسميات مثل "الموجات الجديدة" أو "السينمات البديلة".

إذ قدم الإعلان تحليلا ثقافيا سياسيا معمقا لديناميات النجاح والفشل في المحاولات لفرز سينما بديلة في السابق، مركزا على أن معظم هذه التيارات جرى في النهاية استيعابها وتطويعها لتعود إلى حظيرة السينمات المهيمنة، وفِي أحسن الحالات جعلها لا تحول نفسها طوعا مرة أخرى إلى كنف "جناح تقدمي" مزعوم داخل السينما السائدة. كما شدد البيان على أن "السينما الثالثة" لا يمكن لها إلا أن تستنبط هدفها من ضمن واقع الحركات الثورية الكامنة أو المتفجرة، سواء داخل الدول الرأسمالية الاستعمارية أو داخل الدول الواقعة تحت سيطرتها، وذلك من ضمن النضال ضد الإرث الثقافي الذي فرضه ورسخه الاستعمار الغربي تاريخيا بين شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. واعتبر البيان أن النضال لتصفية إرث الاستعمار الثقافي يمثل حجر زاوية لعمل "السينما الثالثة" لبناء وصقل الشخصية المتحررة والمستقلة لشعوب العالم "كأساس لأضخم تعبير ثقافي، علمي، وفني في هذا العصر".

وضمن إصرار كاتبيه على ضرورة التعاطي بعقلية متحركة وجدلية مع الأطر الخصوصية لتمايزات المكان والزمان، فإن إعلان "السينما الثالثة" بقي، وما يزال، أساسا نظريا وعمليا للكثير من الحركات السينمائية التي ظهرت في أنحاء مختلفة من العالم. وتبقى روح هذا الإعلان مرجعا أساسيا للعديد من الطامحين إلى فكرة "السينما الثورية البديلة"، وبشكل خاص لموضوعة إيجاد بدائل ليس فقط لما يعرض على الشاشة، بل للطرق والوسائل التي يجري من خلالها إنتاج وتوزيع وتسويق وعرض الأفلام باستقلالية نسبية عن حيز الرأسمالية المهيمنة.

سولانس كان رائدا، شجاعا، ومبدئيا في مقاومته السينمائية ... وهاجس انبثاق سينما ثورية جديدة يبقى بيننا اليوم وأكثر من أي وقت مضى في خضم الصراع لإنقاذ البشرية والكوكب من عبث التدمير الذاتي الذي تفرضه وتشجعه الإمبريالية الغربية المهيمنة.