مصادر الاختلاف بين السياسة الخارجية الأمريكية والسياسة الخارجية البريطانية

سلام موسى جعفر

 
 
قد يُثير العنوان حفيظة "الماركسيين" السطحيين! أي الذين لم يقرأوا الماركسية، بل حفظوا عن غيب بعض مقولاتها. فهذا النوع من الماركسيين، وهم الأغلبية للأسف الشديد، لا يمكنهم رؤية الاختلاف نفسه، فكيف يمكنني، في هذه الحالة، الطلب إليهم النظر الى مصادره؟!
النظارة التي يرتديها الماركسي القشري لا تساعده على الرؤية إلا باتجاه واحد فقط! اتجاه يُحدده الانطلاق من المُسلمات والبديهيات المحفوظة عن ظهر قلب، وليس الانطلاق من واقع أن الحياةَ مُتغيرة باستمرار. مع أن منهج ماركس لقراءة الظواهر في الطبيعة والمجتمع، لا يضاهيه منهج في علميته ودقته وشموليته. منهج وفر، لمن يُريد طبعاً، أدوات متعددة لدراسة الظواهر، من قوانين ومقولات ومفاهيم، الى وسائل بحث لا تقتصر على اتجاه مُحدد.
واحدة من أسباب انتشار جائحة القشرية في الماركسية، هو الاقتصار على التحليل الاستنباطي. أي الانطلاق من البديهيات، من العام الى الخاص. في حين وفر المنهج الماركسي في البحث وسائل أخرى، منها الاستقراء. وهو اتجاه في البحث ينطلق من الخاص الى العام، يعتمد على المُراقبة الدقيقة للمُتغيرات، لتطور الظواهر أو نشوء الجديدة منها. وهي وسيلة تُغني الماركسية، وعلى قناعة أنها تؤكد على صحة استنتاجاتها الرئيسية في نهاية المطاف.
لاحظت خلال متابعتي لمؤلفات العديد من الكُتاب المُختصين في العلوم السياسية والاجتماعية وفي الفلسفة، وهي نتاجات تُغطي مرحلة أُطْلِقَ عليها اسم "ما بعد الحداثة"، استخدامهم المُبدع لمنهج ماركس في البحث والاستقصاء عن الظواهر الجديدة. ليس هذا فقط، بل أن استنتاجاتهم أكدت على الفكرة الرئيسية في الماركسية وعززتها.
عودة الى "مصادر اختلاف السياسة الخارجية البريطانية عن الأمريكية" فان النظارة الرخيصة التي يستخدمها السطحي لا ترى أي وجود لمثل هذا الاختلاف، لأن عقله حفظ كالببغاء أن الدولتين رأسماليتان. وبما أن الدولة حسب تعريف الماركسية هي أداة بيد الطبقة السائدة، ففي هذه الحالة، ومع قصر النظر الذي خصه الله به، فإنه لا يرى أي اختلاف بينهما. رؤيته محددة بلونين فقط لا غيرهما: إما أبيض وإما أسود. على الرغم من ترديده المُمل لقول غوته " النظرية رمادية، لكن شجرة الحياة خضراء"
من بين أبرز المفكرين العرب غير الماركسيين الذين استخدموا منهج ماركس في دراسة ظواهر السياسة الخارجية وتحليلها هو الأستاذ الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، سواء اتفقنا معه أم لم نتفق. فأنا هنا لا أتناول أفكاره ودوره، بل أردت تسليط بقعة الضوء على احدى استخداماته للمنهج الماركسي في البحث. ففي كتابه "الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق" وفي محاولة منه لفهم أسباب الموقف الأمريكي الداعم القوي، العلني، الصريح والمباشر للاحتلال الصهيوني للأراضي العربية واختلافه الشكلي في كثير من النواحي عن مواقف الدول الأوروبية، استخدم هيكل منهجين في البحث:
الأول اعتمد على تحليل الموروث الثقافي وأثره النفسي.
والثاني تناول فيه الظروف التأريخية لنشأة الرأسمالية على كلا جانبي المحيط الأطلسي وعلاقة هذه النشأة بالدولة وسياستها الخارجية.
وتوصل الى استنتاج مهم، بعد تحليل استقرائي للوقائع التأريخية، الى أن الرأسمالية في أوربا، بصورة عامة، نشأت في دول موجودة أصلاً. في حين أن الرأسمالية في أمريكا هي التي أنشأت دولة الولايات المتحدة الأمريكية! ماذا يعني هذا؟
دعونا في البداية نتابع هيكل وهو يُلقي الضوء على قيم المجتمع الأمريكي المولودة من رحم الموروث التاريخي. وهي قيم اكتسبت شرعيتها الأخلاقية على أساس أن المنفعة والنجاح هما المعياران الوحيدان لقياس صحة الأفعال والسلوك، والشرعية.
جذور هذه القيم زرعها المهاجرون البيض الذين جاءوا الى أرض أمريكا البكر بهدف الحصول على الثروات الجاهزة. وعلى طريق تحقيق هذا الهدف لم يترددوا بارتكاب أبشع الجرائم. دشن المهاجرون صُنع التأريخ الأمريكي، وكتبوا أولى صفحاته وأورثوها الى الأجيال اللاحقة، فكان:
قتل الآخر هو مضمون السطر الأول. والقتل كان مشروعاً من وجهة نظر المهاجر لأنه يضمن الأمن ويحقق المصلحة.
أما السطر الثاني في كتاب تاريخهم، فقد ازدحم بأغطية أخلاقية تهدف إلى تبرير بشاعة القتل! ولم يكن يصعب عليهم العثور على مثل هذ الأغطية مع اختراع طقوس دينية (عيد الشكر، مثلاً)، واستحداث أعراف أخلاقية جديدة يحتاجها المجتمع الجديد مثل "ان الهندي الأحمر ليس مؤمناً بالله بحيث يستحق نعمة هذه القارة وخيرها العميم. كما إن الحكمة الإلهية لم تخلق موارد الطبيعة بهذا السخاء الرباني لكي يهدرها المتخلفون، وتأسيساً عليه فإن الأحق بالموارد هم الأقدر على استغلالها. ومع الوصول بالمقدمات الى نتائجها فان اغتصاب الأرض يصبح واجباً على المؤمنين ـ كما أن استغلالها خير الصلاة ـ لخالقهم وخالقها"!

اما السطر الثالث فكان التشريع الذي استند على القاعدة "ما هو نافع لأصحابه، قانوني بالضرورة"
استخدم هيكل تشابه الموروثين الثقافيين الأمريكي والإسرائيلي مُنطلقاً لفهم الموقف الأمريكي المُساند للكيان الصهيوني. والحقيقة أن الرجل تعدى حدود هذا الفهم في تقديم العلاقة الامريكية الإسرائيلية، كما يراها، الى القارئ. حيث أشار الى أهمية الكيان في حسابات السياسة الأمريكية باعتباره قاعدة عسكرية ثابتة وجاهزة للاستخدام في كل الأوقات وفي جميع الظروف. وهنا يحضرني قول الرئيسي الأمريكي الحالي في ختام أول زيارة له لدولة الكيان في العام 1973 "لو لم تكن إسرائيل موجودة، لأوجدناها"
ما الذي يُميز الرأسمالية الأمريكية عن نظيرتها البريطانية؟
اختياري بريطانيا كطرف في المقارنة لم يكن محض صُدفة. فعلى الرغم من الارتباط الوثيق بين الدولتين في المشروع الأنجلوسكسوني، ثقافياً وسياسياً، إلا أن بعض أوجه الاختلاف في السياسة الخارجية تبرز بينهما في هذا الجانب أو ذاك.
 
حسب هيكل أن الشركات الرأسمالية في المستعمرة البريطانية السابقة هي التي أنشأت دولة الولايات المتحدة الأمريكية. وقد استند في استقراءه هذا على وقائع تأسيس الدولة الأمريكية التي كانت بدايتها اتفاق احدى عشر شركة أمريكية كبيرة تسيطر على احدى عشر منطقة جغرافية (ولاية) على إقامة اتحاد سياسي بين هذه الشركات (الولايات). لبى الاتحاد حاجة هذه الشركات وجاء لمصلحتها. وابتلع في طريق توسعه أملاك الجيران من أراضي وثروات بوسائل الإغراء والشراء وسفك الدماء. ثم تحول الى امبراطورية عن طريق الاستيلاء على أملاك الأضعف أولاً، حتى وصلت الى الحد الذي اخذت فيه تبتلع أملاك الامبراطوريات السابقة لها.
دعماً مني لقراءة هيكل أذكر القارئ بواقع أن علاقات الإنتاج الرأسمالية في أمريكا لم تُولد ولادة طبيعية. أي لم تُولد من رحم علاقات إنتاجية اقطاعية سابقة لها، كما حصل في أوروبا. بل نشأت مع اطراد النجاحات التي حققها المهاجرون بالمواصفات السالفة الذكر. أي أن التراكم الرأسمالي الأولي الذي حصلت عليه الرأسمالية في أمريكا، سواء في الإنتاج الزراعي أو الصناعي، لم يتحقق من خلال فائض القيمة الذي يخلقه في العادة العمل المأجور، بل تحقق بطرق القتل والنهب واستخدام عمل العبيد المجاني.
على أساس هذه القراءة نستخلص أن الدولة الأمريكية مثلت وتمثل بدون رتوش مصالح الشركات الرأسمالية وبشكل مباشر وصريح. ثقافة الدولة وأسلوب عملها يُجسد ثقافة وأسلوب عمل الشركات الرأسمالية. ويتبدى هذا بشكل أوضح من خلال ممارسة السياسة الخارجية للدولة، وهي الساحة الرئيسية التي تعمل وتتحرك فيها الشركات الامريكية. لو تتبعنا السياسة الخارجية للدولة الأمريكية سنعثر بسهولة، كما عثر هيكل، على أن المعيار المُحرك لسياستها الخارجية هي حسابات الأرباح والخسائر وليست دعاوى الكبرياء او الكرامة.
دعونا الآن نُسلط الضوء على الاختلافات بين السياستين الخارجيتين البريطانية والأمريكية من خلال عمل مقارنة سريعة بينهما قبل مواصلة البحث عن آثار تمايز ولادة الرأسمالية على سياسة الدول.
الدول الاستعمارية الاوربية وفي مقدمتها بريطانيا في سعيها لاحتلال المستعمرات ونهب ثرواتها احتاجت الى غطاء أخلاقي من مثل:
• مسؤولية الرجل الأبيض عن نشر الحضارة
• ادخال النور الى قارات الظلام
• حرية البحار
• حرية التجارة
ورغم وضوح طابع النفاق في هذه الادعاءات، لكنها في كل الأحوال عكست حاجة المستعمر البريطاني الى أغطية أخلاقية. في حين وجدت الدولة الامريكية فيها مجرد زوائد غير ضرورية. وركزت على نشر "القيم الأمريكية"! وهي القيم التي اكتسبت شرعيتها الأخلاقية، كما رأينا، على أساس أن "المنفعة والنجاح" هما المعياران الوحيدان لقياس صحة الأفعال والسلوك، والشرعية.
وفي جانب آخر من جوانب الاختلافات فأن المستعمر البريطاني كان بصورة عامة أقل اعتماداً على الوكلاء المحليين لتنفيذ سياسته في المستعمرات، بينما تركت الولايات المتحدة الامريكية للوكلاء المحليين (دول ومنظمات) تنفيذ بعض من سياساتها في هذه المنطقة او تلك.
نعود مرة أخرى الى فكرة هيكل حول تمايز ولادة الرأسمالية على جانبي المحيط لتفسير هذه الاختلافات في سياسة تنفيذ نفس الأهداف بين المستعمر البريطاني وبين المستعمر الامريكي؟
ولدت الرأسمالية في بريطانيا من رحم الاقطاعية التي كانت تُدير دولة عريقة امتلكت أجهزة إدارية ذات تقاليد. صحيح جداً أن الرأسمالية الصاعدة أخضعت تدريجياً مؤسسات الدولة الى سيطرتها، الا أن هذه السيطرة لم تأخذ الطابع المكشوف، بل هي أقرب الى الهيمنة. لهذا لم تخضع الدولة ومؤسساتها مباشرة إلى سيطرة الرأسمال بل عن طريق ما أسماه الكاتب البريطاني مارك كورتيس "علاقة الباب الدوار بين الحكومة والشركات". القوة الحقيقية كما هي في أمريكا تقع في قبضة نخبة قليلة تتحكم في مؤسسات صناعة السياسات والأفكار السائدة في المجتمع.

أي أن طبيعة الحكم في كلا الدولتين "دكتاتورية النخب"
في بريطانيا يندر أن يتولى رأسمالي أو اداري في شركة رأسمالية مسؤولية سياسية مباشرة في الدولة (إذا استثنينا وزارة المالية). بل عن طريق أحزاب سياسية تُمثل مصالح الرأسمال. كما أن التغيير الإداري في الدولة بعد انتقال الحكم، يقتصر في العادة على رئيس الوزارة والوزراء فقط ولا يشمل وكلاء الوزارات او المدراء من مختلف المستويات. ونلاحظ أن مؤسسات البحث العلمي أو الدراسات الاستراتيجية تتبع إدارياً وتمويلاً الى الدولة نفسها. والمتتبع لتاريخ بريطانيا السياسي يجد أن بعض القيم الاخلاقية والثقافية للمجتمع البريطاني في ظل الرأسمالية لها جذور من الموروث الثقافي والأخلاقي للمجتمع الاقطاعي القديم. كما يجدر بنا الإشارة الى أن المشاركة البريطانية في الحروب في الوقت المعاصر تتطلب بذل جهود لإقناع الرأي العام بقانونيتها وعدالتها. ولهذا تلجأ بريطانيا الى خوض حروبها الصغيرة بسرية تامة، كما فعلت في سوريا واليمن وليبيا وغيرها، وكما تفعل الآن في أوكرانيا.
بينما نجد ان الأمر يختلف في أمريكا، حيث لا توجد حواجز تذكر بين إدارات الشركات وبين إدارة الدولة. فمدراء الشركات هم أنفسهم مستشارون أو وزراء أو حتى رؤساء. كما يمكن ملاحظة أن آلاف الموظفين من مختلف المستويات يجري تغييرهم عند انتقال السلطة الى رئيس جديد. ولا يخفى علينا أن مؤسسات البحث العلمي والدراسات الاستراتيجية والاقتصادية في الولايات الامريكية ليست تابعة للدولة، وانما للشركة أو الشركات التي أسستها ومولتها. فاذا كانت السياسة الخارجية للدولة تهدف الى تحقيق مصالح الشركات الامريكية، فان التطبيق العملي لهذه السياسة يتم بنفس روحية وبنفس عقلية الشركات الرأسمالية. ومن المُسلمات أن ممارسات أي شركة رأسمالية، لا تعرف مرجعية لأي تعاقد غير فائدته المباشرة هذه اللحظة بالنسبة لها. فاذا قلت الفائدة تملصت الشركة من روح الالتزام تمهيداً لإسقاطه. من هذا الفهم يمكن تفسير انسحاب أمريكا من معاهدات الحفاظ على البيئة واتفاقية حظر استخدام الأسلحة البيولوجية واتفاقية روما الخاصة بالجرائم الدولية والاتفاق النووي مع إيران ومعاهدة تحديد الصواريخ النووية متوسطة المدى ومعاهدة السماء المفتوحة. ولا يملك أي رئيسي أمريكي قدرة منح ضمان التزام الإدارة الأمريكية القادمة بالمعاهدات التي توقعها ادارته.
وفيما يتعلق بموضوعة الاعتماد على وكلاء محليين كأدوات لتحقيق السياسة الأمريكية في المناطق الجغرافية البعيدة، نجد أساسه في طبيعة عمل الشركات الرأسمالية. فمن المعروف ان هذه الشركات، وفق حسابات الربح والخسارة، تتنازل عن بعض نشاطاتها الاقتصادية لطرف ثاني تقليلاً للنفقات مع ضمان تحقيق أرباح صافية دون الحاجة الى توظيف رؤوس أموال كبيرة. ولا يفوتنا معرفة واقع أن مزاج الرأي العام الأمريكي ينظر الى عدالة الحرب حسب حجم الخسائر في أرواح الأمريكيين، وليس الى قانونيتها. فالحرب عادلة إذا لم تؤد الى خسائر في أرواح الأمريكيين، والعكس صحيح.
قد نجد فيما مرَّ أعلاه ما يُفسرُ لنا سبب اعتماد سياسة بريطانيا الخارجية على مزيج من حسابات الربح والخسارة وعلى هيبة الدولة. في حين يقتصر اعتماد سياسة أمريكا الخارجية على حسابات الربح والخسارة فقط.
 
سلام موسى جعفر